إدارة الدراسات الإسلامية
EN ع

تاريخ المصحف

تاريخ

المصحف الشريف
 

كتابة القرآن في العهد النبوي ، جمعه في عصري أبي بكر وعثمان.
المصاحف العثمانية، نقط المصاحف وشكلها، ما يجب على كاتب المصحف ، المصاحف في دور الطباعة ، والمكي والمدني ، ترتيب الآيات والسور ، أسماء السور ، الأحكام المتعلقة بالمصحف.
 

 

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
 
مما لا شك فيه أن الله تعالى أكرم هذه الأمة بخير منهج ـ هو القرآن الكريم ـ وبخير معلم دعا إلى الله بإذنه ، وهو النبي الخاتم  صلى الله عليه وسلم  ، كما لم يغب عن فهم المسلم وفكره أنه في رحاب القرآن ومدرسة النبوة تربى الرجال والنساء تربية إسلامية رشيدة ، وتخرجت أجيال استنارت بإيمانهم صفحات التاريخ ، ولكن المحاولات الحاقدة من أعداء الإسلام استطاعت أن تبعد المسلم عن القرآن فهماً وتأثيراً وسلوكاً إلى حد ما . كما شغلته حضارة العصر عن كتاب الله الهادي إلى الحق وإلى صراط مستقيم.
ويشاء الله أن يتم نوره وأن يرد عن كتابه الذي تكفل بحفظه بعد أن أنزله تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة للمحسنين ، فهيأ من المسلمين من يتحمل مسؤولية البعث الجديد وكان لوزارة الأوقاف دور رائد في هذا المجال عبر إدارة الدراسات الإسلامية وفتحت لكل راغب أبواب مراكز تحفيظ القرآن وفق منهج يتيح للدارسين والدارسات حفظ القرآن وجودة ترتيله وفهم معناه واستمراراً لهذه الدراسات القرآنية أعدت الوزارة معاهد متخصصة في الدراسات الإسلامية.
وفي ظل تطوير هذه الدراسة تقرر تدريس مواد جديدة كان من بينها دراسة " تاريخ المصحف الشريف " واختارت الإدارة لهذه الغاية كتاباً يتميز بسهولة العرض ورقة التعبير وأمانة النقل ليسهل التعريف بكتاب الله تاريخاً وتدويناً وليقف المسلمون على ما في القرآن من حكم وأسرار. وليزدادوا إيماناً بأنه كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلقه وأنه تنزيل من حكم حميد.
نسأل الله أن ينفع به الراغبين في دراسته وأن يبصر المسلمين بنعمة الله عليهم ويسدد خطاهم نحو صيانة القرآن وحمايته من كل عدوان والله ولي التوفيق.

مدير الدراسات الإسلامية

 
الكتابة العربية
وقت الإسلام وبعده
بعث النبي  صلى الله عليه وسلم  إلى أمة أمية لا تكتب ولا تحسب ، ولا تعرف عن الخط والكتابة شيئاً ، اللهم إلا نزراً يسيراً في جزيرة العرب كلها ، وبضعة عشر رجلا من قريش خاصة ، ونفراً قليلا من أهل المدينة ومجاوريهم من اليهود عرفوا الخط والكتابة قبل مبعث النبي  صلى الله عليه وسلم  بقليل . فمن هؤلاء أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعثمان بن عبيد عفان ، وعلي بن أبي طالب ، وأبو سفيان بن حرب ، وطلحة بن عبيد الله ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وأبان بن سعيد ، والعلاء بن المقرئ ، وهؤلاء من أهل مكة.
ومن أهل المدينة عمر بن سعيد ، وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، والمنذر بن عمرو ، وكان بها يهودي يعلم الصبيان الكتابة.
ولقلة انتشار الكتابة في ربوع الجزيرة العربية ، وانحصارها في أفراد قلائل من أهلها صح التعبير عن الأمة العربية بأنها أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب ، وقد جاء الإسلام وسجل عليها الأمية بقوله تعالى } هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ  { الجمعة2، والمشهور عند علماء التاريخ أن أستاذ القرشين في الكتابة والخط حرب بن أمية بن عبد شمس والد أبي سفيان الصحابي الجليل ، لأنه كان رجلا كثير الأسفار إلى البلاد بالتجارة ، فتعلم الخط والكتابة على يد أهل هذه البلاد ، وعلمها القرشين فبدأ الخط بمكة على يده.
واختلف المؤرخون في تعيين من علم حرب بن أمية ، فقيل هو عبدالله ابن جدعان ، وقيل بشر بن عبد الملك ، وهاك ما ورد في هذا.
ذكر الإمام الدائي بسنده إلى زياد بن أنعم قال : قلت لعبد الله بن عباس ، معاشر قريش ، هل كنتم تكتبون في الجاهلية بهذا الكتاب العربي ، تجمعون فيه ما اجتمع ، وتفرقون فيه ما افترق ، هجاء بالألف واللام والميم ، والقطع والوصل وما يكتب به اليوم قبل أن يبعث النبي  صلى الله عليه وسلم  ؟ قال : نعم ، قلت : فمن علمكم الكتابة ؟ قال : حرب بن أمية ، قلت فمن علم حرب ابن أمية ؟ قال : عبدالله بن جدعان ، قلت فمن علم عبدالله ؟ قال : أهل الأنبار ، قلت فمن علم ذلك الطارئ ؟ قال : الخلجان بن الموهم ، كان كاتب هود نبي الله بالوحي عن الله عز وجل ، انتهى.
وروى الكلبي عن عوانة أنه قال : أول من كتب بخطنا هذا وهو الجزم ـ مرامر بن مرة ، وأسلم بن سدرة وعامر بن جدرة ، وهم من عرب طيء ، تعلموه من كاتب الوحي لسيدنا هود عليه السلام ، ثم علموه أهل الأنبار ، وعنهم انتشرت الكتابة في العراق والحيرة وغيرها ، فتعلمها بشر بن عبدالملك أخو أكيدر بن عبدالملك صاحب دومة الجندل ، وكان له صحبة بحرب بن أمية لتجارته عندهم في بلاد العراق.
فتعلم حرب منه الكتابة وعلمها القرشيين ، ثم سافر معه بشر إلى مكة فتزوج الصهباء بنت حرب أخت أبي سفيان ، فتعلم منه الكتابة جماعة من أهل مكة منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة الخ ، فكثر سواد الكاتبين من قريش قبل الإسلام إلى حد ما.
فأنت ترى أن الرواية تدل على أن أستاذ حرب بن أمية عبد الله بن جدعان والثانية تدل على أن أستاذه بشر بن عبدالملك.
بقيت الكتابة محصورة في أفراد قلائل في الجزيرة إلى أن هاجر النبي  صلى الله عليه وسلم  إلى المدينة ، فشجع الكتابة ، وحث على تعليمها بجميع الوسائل.
ومما يدلنا على هذا أنه لما انتصر على قريش في غزوة بدر وأسر منهم سبعين رجلا من صناديد قريش وغيرهم جعل على كل واحد من الأسرى لفكاكه من الأسر فداء من المال، وعلى كل من عجز عن الافتداء بالمال ـ إن كان ذا دراية في الكتابة ـ أن يعلمها عشرة من صبيان المدينة ، فلا يطلق سراحه إلا بعد تعليمهم.
وبذلك راجت سوق الكتابة في المدينة ، وأخذت في الذيوع والانتشار في سائر الأنحاء كلما اتسعت رقعة الإسلام ، وكثرت فتوحاته.
ولذلك لم يتم القرآن نزولا حتى كان للرسول  صلى الله عليه وسلم  أكثر من أربعين كاتباً ، وكان أولو الأمر من المسلمين يعملون ـ جاهدين ـ على انتشار الكتابة في سائر الأقطار الإسلامية ليعلم الناس جميعاً أن الإسلام والعلم قرينان لا يفترقان وأن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يعمل على رفع مستوى الإنسانية إلى قمة المجد والسؤدد.
قال العلماء : كان الخط الذي تعلمه حرب وعلمه القرشيين هو الخط الأنباري الحيري المسمى بعد انتقاله إلى الحجاز بالجزم ، وكان هذا الخط هو المتداول على أيدي الكاتبين ، يكتبون به رسائلهم وأشعارهم وغيرها إلى أن جاء الإسلام فكتبوا به الوحي ، ثم كتبوا به صحف أبي بكر التي جمع فيها القرآن ، ثم كتبوا به المصاحف العثمانية وغيرها ، واستمر تداوله بين الناس يكتبون به المصاحف وغيرها إلى أن فتح المسلمون الممالك ، ومصروا الأمصار ، ونزلت طائفة من الكتاب الكوفة فعنيت بتجويد الخط العربي وتحسينه حتى صار خط أهل الكوفة متميزاً بشكله من الخط الحجازي، فحينئذ سمي (( الخط الكوفي )) وبه كانت تكتب المصاحف وغيرها.
ثم أخذ الخط العربي يسمو ويرتقي على يد هؤلاء المهرة الذين كان لهم اليد الطولى في تنميقه ، وتنسيقه وهم قطبة المحرر ، والضحاك بن عجلان ، وإسحاق بن جاد.
وقد استطاع قطبة أن يخترع من الخط الكوفي والحجازي خطاً آخر هو مزيج من الخطين السابقين ، ويعتبر هذا الخط أساس الذي يكتب به الآن.
وفي عهد الدولة العباسية بدأ الخط العربي يساير سائر العلوم نمواً وتقدماً في هذا العصر الذهبي على يد الوزير العظيم أبي علي محمد بن مقلة الذي استطاع بعقليته الفذة ، ونبوغه النادر أن يتمم ما بدأ به قطبة من تحويل الكتابة العربية من صورتها الكوفية إلى الصورة التي هي عليها الآن ، وقد اخترع أشكالا كثيرة للخط العربي وفروعاً له متمددة ، وصوراً شتى لسنا بصدد الكلام عليها.
ثم جاء بعد ابن مقلة علي بن هلال البغدادي المكني بابن البواب ، فاقتفى أثر ابن مقلة وأخذ طريقته فهذبا ونقحها وأكمل قواعدها وكساها بهجة وطلاوة حتى أوقت على الغاية ، وما برح العلماء والكتاب في سائر الإعصار والأمصار يعنون بالكتابة ، ويتفننون في تجميلها وتنسيقها ويتبارون في إجادتها وتحسينها ، والنهوض بها نحو التقدم والرقي إلى أن بلغت الذروة في جمال التنسيق ، وكمال التنميق ، وبراعة التهذيب كما هو مشاهد الآن ، والله تعالى أعلم.
 
إنزال القرآن الكريم منجماً وحكمة ذلك
لم يرد الله تعالى أن يكون إنزال القرآن على سنن إنزال الكتب السماوية السابقة جملة واحدة ، بل اقتضت حكمته تعالى أن يكون إنزاله منجماً [1]}أر بأت/أربمشنستيبمنشستيبتنمشسيبتنمشسيبتنمكبشسيتنمكمنتمننمتنم م وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً  {الإسراء106، وقوله تعالى في سورة الفرقان حكاية عن الكفار ورداً عليهم }  وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً {الفرقان32. موزعاً على الحوادث ، مقسماً على الأزمان ، والدليل على أن إنزال القرآن على هذا النحو قوله تعالى في سورة الإسراء :
وهذه الآية تدل على أمرين:
الأول : أن القرآن نزل مفرقاً ، والثاني أن غيره من الكتب السابقة نزل جملة واحدة ووجه دلالتها على الأمر الأول أنها سيقت لحكاية سؤال الكفار، واعتراضهم على كيفية إنزاله ، فلو كان نزوله جملة واحدة كنزول غيره من الكتب قبله لما صدر منهم هذا الاعتراض ، لأن نزوله حينئذ سيكون موافقاً للسنة الإلهية في نزول الكتب السماوية ، فاعتراضهم على كيفية نزوله دليل على أن نزوله مخالف لنزول الكتب قبله ، وقد كان نزولها جملة فيكون نزوله مفرقاً.
ووجه دلالتها على الأمر الثاني أن الله تعالى لم يكذبهم فيما ادعوا من نزول الكتب السماوية جملة ، فلو كان نزولها مفرقاً كالقرآن لأكذبهم ، ورد عليهم بأن التنجيم هو سنته تعالى فيما أنزل على الأنبياء من الكتب كما ورد عليهم في قوله } وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً {الفرقان7 بقوله تعالى } وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً {الفرقان20، يعني أن هذه سنته تعالى في جميع الرسل ، وكما رد عليهم في قولهم } أَبَعَثَ اللّهُ بَشَراً رَّسُولاً { الإسراء94،بقوله } وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ { الأنبياء7، ومثل ذلك قولهم : كيف يكون محمد رسولا ولا هم له إلا النساء ، ورد الله عليهم بقوله} وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً { الرعد38.
فالله تعالى لم يكذب المشركين ولم يرد عليهم فيما ادعوا من نزول الكتب السابقة جملة ولكنه أجابهم ببيان الحكمة في إنزال القرآن منجماً مخالفاً في ذلك لسائر الكتب قبله بقوله تعالى :
} كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً { الفرقان32.
وسنقفك على شرح حكمة هذا التنجيم قريباً إن شاء الله تعالى .
إذا علمت أن القرآن نزل على هذه السنة. سنة التوزيع على الحوادث ، والتقسيم على الأزمان فاعلم أنه قد كانت تنزل الآية الواحدة ، وقد كانت تنزل عدة آيات. فقد نزلت عشر آيات في سورة النور دفعة واحدة في قصة الإفك من قوله تعالى :} إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ { إلى قوله تعالى : } وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ { النور20 كما في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم.
ونزلت عشر آيات مرة واحدة أيضاً من قوله تعالى :}قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ { إلى قوله تعالى } أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ { المؤمنون10 ويدلنا على نزول هذه الآيات مرة واحدة ما رواه الإمام أحمد بسنده إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال ، كان إذا نزل على رسول الله  صلى الله عليه وسلم  الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل ، فلبثنا ساعة فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال : (( اللهم زدنا ولا تنقصنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وأعطنا ولا تحرمنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وارض عنا وأرضنا )) ثم قال : لقد أنزل على عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ  }قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ { حتى ختم العشر . وروى هذا الحديث الترمذي والنسائي أيضاً.
وصح نزول بعض آية وحدها ، وهي قوله تعالى في سورة النساء  } غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ { النساء95.
ففي البخاري عن البراء بن عازب قال : لما نزلت } لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ { النساء95 دعا رسول الله زيداً فجاء بكتف فكتبها وشكا ابن أم مكتوم ضرارته ، فنزلت } لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ { النساء95 وفي هذه الرواية إبهام وضحته الرواية التي رواها البخاري أيضاً عن سهيل بن سعد الساعدي وفيها التصريح بأن الذي نزل هو } غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ { وحدها.
ومن السور القصار ما كان ينزل دفعة واحدة كالفاتحة ، والعصر ، والكوثر ، والنصر ، والإخلاص ، والمعوذتين ، ومنها ما كان ينزل مفرقاً كسورة اقرأ فإن أول ما نزل فيها من قوله تعالى } اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } إلى قوله } عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ { العلق5.
ثم نزل باقيها بعد ذلك ، ومنها سورة الضحى ، نزل منها أولا من قوله تعالى (( والضحى )) إلى (( ولسوف يعطيك ربك فترضى )) ثم نزل باقيها بعد ذلك .
ولم ينزل من السور الطوال سورة بتمامها إلا سورة الأنعام ، فقد روى كثير من المحدثين نزولها جملة عن غير واحد من الصحابة والتابعين لأنها مشتملة على المكذبين بالبعث والنشور . وهي من مقاصد الدين الأساسية التي لا يتوقف نزول آيها على سؤال أو حادثة ، أو سبب يقتضي إنزالها ، ورجح إنزالها دفعة واحدة الإمامان الفخر الرازي والقرطبي وغيرهما من علماء التفسير.         
أما بقية سور القرآن فقد نزلت منجمة متفرقة.    
هذا وقد كان نزول القرآن منجماً مثاراً لعجب المشركين ، ومنشأ لاعتراضهم عليه ، فقد سمعوا أن الكتب السماوية السابقة كانت تنزل على الرسل جملة واحدة ، كما نزلت التوارة على موسى في الألواح مرة واحدة ، فقالوا : إذا كان القرآن قد نزل على محمد بن عبدالله كما يدعي فما باله لم ينزل عليه جملة واحدة كما نزلت التوراة على موسى ، وما باله تنزل منه الآية تلو الآية ، والآيات عقب الآيات في أزمنة متطاولة ؟ أليست سنة الله في إنزال الكتب واحدة ؟ ألا يكون مجيئه هكذا مفرقاً دليلا على أن محمد يصطنعه ثم يقول هذا من عند الله ؟ وليست هذه الشبهة بأولى جهالاتهم ، فقد قالوا في القرآن ما هو أكثر شناعة من هذا ، وغالطوا حسهم وعقولهم ، وكابروا وجدانهم ، وما تشهد به فطرهم ، وما اعترف به أولو الرأي منهم ، فقالوا } إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ { ، } وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ { وقالوا }  إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ { وهكذا شأن كل جهول يحكم على الأشياء بجهله ، وبما يوحيه إليه فساد استعداده ، وتصوره له سخافة فكره وجهلوا أن نله منجماً أمر اقتضته حكمة الله التي سمت عن قولهم ، وضلت عنها أفكارهم ، وأنه لولا هذا التنجيم لما أحدث القرآن الكريم في الأمة العربية هذا الانقلاب العجب الذي سرى أثره في الأمم الأخرى ، فكان حداً فاصلا بين عهدين ، عهد طفولة النوع البشري ، وعهد بلوغه أشده ، واستكماله خصائصه التي يميزه الله بها على كثير من خلقه.
 وقد حكى الله تعالى هذه الشبهة في هذه الآية } وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً { الفرقان32 ، وقد فندها ورد عليهم بقوله } كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً { الفرقان32 فبين أن حكمة تنجيمه هو تثبيت فؤاد النبي  صلى الله عليه وسلم  في مواطن اللجاج والخصومة بينه وبين المكابرين من أعدائه.
واقتصر في بيان حكم تنجيم القرآن على هذه الحكمة لمناسبة المقام ، فإنهم كانوا يظنون أن هذه الشبهة الواهية التي شنعوا بها على القرآن كافية في هدم دعائم الدعوة المحمدية ، فعكس الله عليهم ظنهم ، وبين أن تنجيمه من أقوى العوامل في تثبيت قلبه وتقوية شوكته ، وإحكام دعوته.
واقتصار القرآن على هذه الحكمة في مقام الرد على المشركين لا ينافي أن لتنجيمه حكماً أخرى يجتلي البصير نورها إذا تأمل في المناسبات التي نزل القرآن لأجلها ، والغرض المنشود من أنزله كله ، والظروف التي أحاطت بالرسول  صلى الله عليه وسلم  والمسلمين حين نزوله.
وعند التأمل العميق ، والنظر الفاحص نستطيع أن ندرك بعض هذه الحكم ، وهاك بيانها.
 
حكم تنجيم القرآن الكريم
الحكمة الأولى
تثبيت فؤاد الرسول وتقوية قلبه
وهذه الحكمة هي التي صرح الله بها في قوله تعالى  }كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً { الفرقان32 رداً لقوله المشركين } لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً{.
فالآية صريحة في أن نزوله منجماً كان المقصود منه تثبيت فؤاد النبي  صلى الله عليه وسلم  وتقوية قلبه ليتفرغ لتبليغ الدعوة الإسلامية بعزيمة قوية ، وهمة متقدة ، وقلب مفعم بالطمأنينة والسكون ، لا تساوه الأحزان ، ولا تحتل ساحته الهموم والأقدار ، التي تكسر شوكة العزيمة ، وتضعف قوة الإرادة ، وتطفئ جذوة النشاط الملتهب ، وتقعد الإنسان عن السير إلى المثل الأعلى الذي يتوخاه في عمله خصوصاً في مثل هذه المهمة الكبرى التي يراد بها صقل طبائع النفوس ، وتهذيب الفطر الإنسانية ، وإصلاح ما فسد من أحوال الأمم ، وتوجيه العالم البشرى إلى طريق الهدى والرشاد ليصل إلى سعادة الدنيا والآخرة.
(( حاجة الرسول إلى التثبيت ))
ما كاد رسول الله  صلى الله عليه وسلم  يجهر بالدعوة إلى الله تعالى حتى ثارت عليه عاصفة هوجاء من اضطهاد مشركي أهل مكة حتى من كان منهم من أقربائه الأقربين كعمه أبي لهب الذي كان يحرض قومه عليه للقضاء على دعوته وهي وليدة مهدها ويقول : خذوا على يديه قبل أن تجتمع العرب عليه.
فقد وجدوا في دعوته مصدر خطر شديد على كيانهم وشهواتهم التي استعبدت قلوبهم ، وأعمت بصائرهم عن الحق لما جاءهم.
فأما رؤساؤهم وأصحاب الزعامة والنفوذ من صناديدهم فقد خضوا أن تنجح دعوته ، ويلتف الناس حوله تأثراً بهدايته وعذب منطقه الذي كان يجذب النفوس إليه ، ويفعل فيها ما لا يفعله السحر ، فيوشك أن يكثر سواد عليهم كبرهم أن يتبعوه فيكونوا يجلبون من ورائها غنماً عظيماً ، وأبي عليهم كبرهم أن يتبعوه فيكونوا أسوة بالضعفاء من أصحابه ، ويزول ما لهم من الامتيازات الباطلة كما هو شأن المستكبرين في كل زمان ، فكانوا يغرون سفهاء العامة عليه ِ، ويجتهدون في وضع العقبات في طريق إنجاح دعوته حتى يدب اليأس في قلبه فيترك الدعوة إلى دينه ، وأما الدهماء من العامة فكانوا يرتعون في ميدان الشهوات البهيمة الدنيئة ، لا يزجرهم ضمير ولا يرد عنهم وجدان ، ولا يعصمهم خلق فاضل ، ولا يكفهم عن غوايتهم قانون عادل ، فلما واجههم الرسول بدعوته وجدوا فيها من الحجر على شهواتهم الدنيئة ما نفر نفوسهم عنه فتحالفوا مع رؤسائهم وكبرائهم على اضطهاده والقضاء على دعوته ، تحالفوا على إيذائه هو من تبعه بجميع صنوف الإيذاء والإهانة ، ما تركوا وسيلة من وسائل الإيذاء إلا سلكوها ، ولا باباً من أبواب القسوة عليه وعلى من آمن به إلا ولجوه ، كانوا يستهزءون به حتى ألقوا عليه القذر وهو يصلي في المسجد ، كانوا يتبعونه في الأسواق قائلين هذا ساحر مجنون .
وأخذ طاغيتهم أبو جهل بمخنقه حتى خلصه منه أبو بكر وهو يقول : } أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ {غافر28 وآذوا أتباعه إيذاءً تقشعر منه الأبدان ، وتنخلع له القلوب ، فكانوا يأخذون بعضهم فيضعونه على الرمل في الرمضاء ويضعون الحجر على صدره ويقولون لا نرفعه عنك حتى تكفر بمحمد ، فما يثنيه ذلك عن إتباعه ، وأخذوا أم عمار بن ياسر فشقوها نصفين بين فرسين ، ولما أعيتهم الحيل قاطعوهم وألجأوهم إلى شعب أبي طالب ثلاث سنين حتى أكلوا ورق الشجر من شدة الجهد ، ولم يكتفوا بذلك بل كانوا يقتسمون مداخل مكة لترويج الدعاية ضده بين قبائل العرب الوافدين إلى مكة في موسم الحج . حتى لا يستمعوا إليه.
كانت هذه الاضطهادات المتوالية وذلك التكذيب والعناد الذي أصروا عليه تحدث في نفس الرسول حرجاً ، وتوجد في قلبه حزناً ممضا على أولئك القوم الذين أضحوا ضحية الغواية والضلال ، وكان أجدر بهم أن يكونوا أول من يلبي دعوته وهم يعلمون من صدقه وسمو نفسه ونزاهة مبادئه التي دعاهم إليها ما لا يعلمه غيره من قبائل العرب النائين عنهم . ولكنه العناد والطغيان يعمي عين البصيرة ، ويصد صاحبه عن طريق الحق والرشاد.
ولم تكن عواصف الفتن التي ثارت عليه مقصورة على مدة إقامته بمكة بل ثارت عواصف أخرى بالمدينة من دسائس اليهود والمنافقين الذين كانوا يؤلبون عليه أعداءه ، وينقصون عهودهم ومواثيقهم في أحرج الأوقات ، ويبثون الشبهة بين ضعفاء المسلمين ليفتنوهم عن أتباعه ، ويدبرون المكائد لاغتياله ظلماً وعدواناً.
وكان الرسول  صلى الله عليه وسلم  في معظم سني الدعوة يلقى من هذه الطوائف عنتاً وتكذيباً ، وعناداً وجحوداً ، وتهماً باطلة رموه بها ، ودعايات مزيفة روجوها ضده ترويجاً لم تهدأ ثائرته إلا بعد أن أظهره الله عليهم.
فكان من عناية الله تعالى به أن يثبت قلبه في هذه الفتن المدلهمة حتى يفعل الله أمراً كان مفعولا.
وكان من أهم العوامل في تثبيت قلبه الشريف نزول القرآن عليه منجماً ذلك لأنه يجدد الوحي وتكرار نزول الملك به على قلبه  صلى الله عليه وسلم  يشرح صدره ويملأ قلبه سروراً وغبطة ، ويشعره الفينة بعد الفينة بأنه في كنف الله وعنايته وحفظه وكلاءته لأنه الوحي يحمل في كل مرة من دلائل صدقه ، في دعوى الرسالة ما يفحم المعاند ، ويخصم المكابر ، ويقطع ألسنة المكذبين ، ويكبت كيد المستهزئين ، ويقنع عقول المنصفين بأنه رسول رب العالمين ،ولقد كان تثبيت القرآن لقلب رسول الله  صلى الله عليه وسلم  في مواطن اللجاج والخصومة بينه وبين أعدائه على طرق شتى.
فتارة كان التثبيت بإنزال قصص الأنبياء والمرسلين عليه متفرقة في أزمنة متطاولة بحسب الحاجة إليها ليبين الله له فيها سنته في جعل العاقبة للمتقين رغم ما يصيبهم في تبليغ الدعوة من المحن والخطوب ، وسنته في إهلاك المكذبين المستهزئين مع ما لهم من الحول والقوة ، والملك والسلطان ، وليزداد ثباتاً على ثباته ، وإقداماً فوق إقدامه ، وجرأة على المضي في سبيل هداية الناس ، وإنقاذهم من عماية الضلال ، وقد جاء التصريح بذلك في قوله تعالى }وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ { هود120.
وتارة كان بإنزال الآيات التي تحضه على الثبات والصبر ، وتعده بالتأييد والنصر كالآيات القرآنية } وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا { الطور48 ، } فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ { الأحقاف35  سورة الأحقاف ، } وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ {النحل127، ونحو ما في سورتي الضحى والانشراح من الوعود الكريمة بأجزل العطاء وأحسن المثوبة.
وطوراً كان التثبيت بإنزال آيات التسلية والنهي عن الحزن لإعراض قومه عن الهدى نحو : } فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً { الكهف6، } لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ { الشعراء3، } فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ { فاطر8 ، فلعلك تارك بعض ما يوحي إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل.
وتارة كان بإنزال آيات الوعيد التي أنذر بها المكذبين من قومه خشية أن يصيبهم من العقوبات مثل ما أصاب قبلهم من الأمم الباغية نحو } فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ { فصلت13 إلى قوله } فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ { فصلت17 ، } أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ { الأعراف97، إلى قوله سبحانه } فهم لا يسمعون { سورة الأعراف، } أكفاركم خير من أولئكم { إلى قوله } والساعة أدهى وأمر { سورة القمر.
وتارة كان التثبيت بإنزال آيات الحجج والبراهين التي تدحض أكاذيب المفترين كالآيات التي نزلت في إبطال الشرك والنهي على المشركين والرد على منكري البعث والنشور ، وتفنيد شبهات منكري الوحي والنبوة إلى غير ذلك.
وعلى الجملة فآيات الذكر الحكيم كلها كانت تثبيتاً لقلبه الشريف  صلى الله عليه وسلم  لأنها من جهة كونها معجزة لجميع البشر عن الإتيان بمثلها كانت آية عظمى لتأييد رسالته ، وعاملا قوياً في تثبيت قلبه ، ومن جهة كونها كانت تنزل بحسب المناسبات عند الحاجة إليها سواء أكانت لتقرير تشريع أم للجواب عن سؤال أم لإقامة حجة ، أم لتفنيد شبهة كانت أيضاً من عوامل تثبيت قلبه  صلى الله عليه وسلم  لأنها تجعله على بصيرة من أمر ربه ، وتجدد عهد صلته به ، وتخرجه من المآزق الحرجة التي كان يلجئه إليها المشركون.
وهذه الحكمة هي أهم حكم تنجيم القرآن ، ويمكن رجع باقي الحكم إليها ، ولذلك اقتصر الله عليها في الرد على الكفار حيث اعترضوا على نزول القرآن مفرقاً بقولهم } لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً { فرد عليهم بقوله } كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً {الفرقان32.
 
الحكمة الثانية
تيسير حفظه وفهمه على المسلمين
يعلم كل من درس تاريخ المسلمين من بدء ظهور الإسلام إلى ختام نزوله ، وأحاط علماً بالمحن التي أصابتهم ، والشدائد التي انتابتهم أنه لم يكن من الممكن عادة أن يتفرغوا لدراسة كتاب ممتد النسق ، بعيد الغاية كالقرآن الكريم لو جاءهم مرة واحدة ، فقد كانوا أميين لا يعرفون القراءة والكتابة ، ولم تكن أدوات الكتابة ميسورة لدى الكاتبين منهم على ندرتهم ، ونشأ الإسلام فيهم وهم بمكة قليلوا العدد ، مستضعفون مضطهدون ليس لديهم من قوة السلطات ما يحميهم من صولة أعدائهم ، ولا من الأموال ما يمكنهم من تنظيم معاهد علمية يدرسون فيها كتاب ربهم ، ولا من فراغ الوقت وهدوء البال ما يمكنهم من التوفر على حفظ ذلك الكتاب ، وفهمه ودراسته ، بل أحاطت بهم الشواغل والمحن من كل صوب ، فكانوا مضطرين على السعي وراء رزقهم وقوت أولادهم ، وإلى مقاومة الاضطهاد الذي أثاره عليهم أعداؤهم ، وظلوا بمكة ثلاث عشرة سنة وسيف الإرهاق والظلم والاضطهاد والعنف والإيذاء والتشريد مصلت فوق أعناقهم ، حتى اضطروا إلى الهجرة تلو الهجرة عن أوطانهم ، ومبارحة ديارهم وأموالهم ، ومفارقة أهليهم ، والفرار بدينهم أخيراً إلى المدينة المنورة عسى أن يجعلها الله تعالى موئلا للإسلام ، ومعتصماً للمستضعفين منهم فما كادوا يقيمون بالمدينة ، ويتنسمون نسيم الحرية حتى عصفت بهم ريح الدسائس والفتن والمناوشات التي أثارها اليهود والمنافقون المجاورون لهم في المدينة.
واضطرمت نيران الحروب بينهم وبين قريش وغيرهم من قبائل العرب الذين تألبوا عليهم فكان بينهم وبينهم سلسلة معارك وغزوات استنفدت كثيراً من قواهم وجهودهم ، فضلا عما كانوا فيه من إقلال وفقر ، وتعطيل لمصالحهم الاقتصادية ، فكانت حياة المسلمين طوال هذه السنن حياة مكافحة وجهاد ، ومقاومة وجلاد لتلك الكتل البشرية التي تجمعت عليه من كل حدب تريد إطفاء نورهم ، وفتنتهم في دينهم ، فلم يكن من الميسور ـ وهذه ظروف حياتهم ـأن يتفرغوا لحفظ كتاب عظيم كالقرآن لو نزل مرة واحدة مهما كان لهم من قوة الحافظة ، وجودة الذاكرة ، وبخاصة إذا علمنا أن ليس المقصود من حفظ القرآن استظهار ألفاظه فحسب بل كان المطلوب منهم أن يحفظوا ألفاظه ، ويفهموا شرائعه وأحكامه ، ويعرفوا مقاصده ومراميه ، وينفذوا أوامره ونواهيه ، ليتمكنوا من الاضطلاع بتحمل أعباء الدعوة الإسلامية بعد رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ، ويكونوا أساتذة هذه الأمة في فقه الشريعة ، وفهم أسرارها ، فلو نزل القرآن جملة واحدة لعجزوا عن حفظ ألفاظه فضلا عن فهم معانية ، فاقتضت الحكمة العليا أن تنزل الآيات متفرقة حتى يسهل عليهم حفظها ، ويتهيأ لهم استظهارها وحتى يستطيعوا فهم معانيها ، وإدراك دقائقها ، ويتمكنوا من اعلم لبما فيها ، وذلك ما كان ن فقد كانت الآيات تنزل متفرقة فيستظهرونها ، ويفهمونها ، وإذا أشكل عليهم فهم شيء منها سألوا عنه رسول الله  صلى الله عليه وسلم  فيكشف لهم عن معناه ، ثم يعلمون به.
فأخذوا القرآن بقوة علماً وعملا واعتقاداً ، قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : (( كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيه ويعمل بهن )).
وقال الإمام أبو عبدالرحمن السلمى : حدثنا الذين كانوا يقرءوننا أنهم كانوا يستقرءون من النبي  صلى الله عليه وسلم  ، وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يتركوها حتى يعملوا بما فيها ، فتعلمنا القرآن والعمل جمعاً )).
 
الحكمة الثالثة
إن تنجيمه أبلغ في التحدي ، وأظهر في بيان الإعجاز ، ولبيان ذلك نقول :
نزل القرآن ليكون معجزة الرسول الكبرى ، وآيته الخالدة ، وليتحدى به العرب حتى إذا عجزوا عن معارضته ثبت لديهم أنه ليس من كلام البشر وإنما هو من كلام مانح القوى والقدر.
وقد تحدى به النبي  صلى الله عليه وسلم  العرب وهم ألد الخاصمون الذين لا يرتقي الشك إلى أحد من الناس أن البلاغة طوع أمرهم ، وملك قيادهم ، لأنهم ملكوا زمامها ، وأحاطوا خبراً بدقائقها وأسرارها ، وجروا في كل فن من فنونها شوطاً غير قريب ، فتقاولوا في الحماسة والفخر وتطاولوا في المدح والهجر وتنافسوا في الرثاء والوصف ، وما تركوا شيئاً يحيط بهم إلا تناولوه بألسنتهم فجاء القرآن الكريم ببلاغته الرائعة ، وفصاحته الممتعة ، التي حيرت عقولهم وأدهشت ألبابهم ، حيث وجدوا أمامهم كلاماً محكم النسج ، دقيق السبك ، قوي المنزع ، مضيء الديباجة ، ناصع الحجة ، رصين الأسلوب ، متين المطلع والمقطع ، قوي الاتصال والترابط ، آخذاً بعضه برقاب بعض في سورة وآياته وجمله.
يجري دم الإعجاز فيه كله كأنه سبيكة واحدة ، لا يكاد يوجد بين أجزائه تفكك ولا تخاذل كأنه حلقة مفرغة ، أو عقد نضيد ، نظمت حروفه وكلماته ونسقت جمله وآياته ، فلا ترى تفاوتا بين أجزائه ، ولا تمايزاً بين سوره وآياته لا تنبوا فيه كلمة عن موضعها ، ولا يتخاذل فيه شيء من أسلوبه ، ولا يظهر فيه أثر من وهن الوضع وضعف التأليف كما هو الشأن في كلام البلغاء ، الذي يعتريهم شيء من تخاذل الروح ، واعتلال المزاج النفسي يظهر أثره في كلامهم ، ولا تواتيهم الفطرة البيانية بالقوة في جميع أساليبهم ، فيجد النقاد في موضع الضعف من كلامهم مغمزاً ومطعناً يسلطون عليه سيف نقدهم الصارم ، وصدق الله حيث يقول : } كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير { ويقول : } قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً { ويقول : }الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني { ـ الآية.
فلو نزل القرآن كله جملة واحدة ، وتحداهم الرسول بجملته وهو ممتد النسق بعيد الغاية لكان لهم وجه من العذر يلبس الحق بالباطل ، ولقالوا إن عجزنا عن معارضته ليس لضعف في قدراتنا البلاغية ، وإنما صرفت نفوسنا عنه لطوله لأن للقوة النفسية حداً إذا حملت على ما وراءه كان من طبعها أن تنتهي إلى ما دونه ، فكان مقتضى الحكمة أن ينزل مفرقاً. وأن يكون نزول الآية أو الآيتين أو الآيات في مدة يعرفون مقدارها بما ينزل عقبها من الآيات ، وأن يتحداهم الرسول بالإتيان بمثل الآيات في مثل تلك المدة ليكون عجزهم عن الإتيان بمثلها أبلغ في إفحامهم ، وأظهر في إعجاز القرآن ، لأنه يقطع عليهم سبل المعاذير التي كان يمكن أن يحتجوا بها لو كان نزوله جملة وهذا ما كان ، فقد كانت الآيات تنزل في فترات من الزمان حسب المقتضيات التي سنقف عليها قريباً إن شاء الله تعالى.
وكان الرسول يتحداهم بها ، ويصارحهم بأنهم لن يستطيعوا معارضتها ، والإتيان بمثلها ، أو بما يقاربها ، فلم يكن منهم إلا الفشل التام ، والإحجام المخزي ، ومع هذا الفشل وهذا العجز يحكي الله تعالى عنهم أنهم قالوا } لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين { ولعمر الحق ما قالوا شيئاً ولا قدروا على شيء ، ولو قدروا ما تأخروا ، بل رضوا ببذل مهجهم وإنفاق أموالهم ، والجلاد بالأسنة في الحروب الطاحنة لصد دعوته بدلا من معارضته بالآيات وجداله بألسنتهم مع أن المعارضة كانت أبلغ في صد دعوته لو قدروا عليها.
أليس إحجامهم عن معارضة بعض آياته مع إفساح المدة وتراخي الأجل أعظم دليل على عجزهم التام عن معارضة القرآن كله ، وعلى أن بلاغة القرآن أسمى من متناول قدرهم ، وأنه معجز حقاً وإلا فما بالهم يحجمون لو كانوا قادرين؟؟
الحكمة الرابعة
مسايرة الحوادث التي حدثت وقت التشريع ، وغير خاف أنها كانت تحدث في أوقات مختلفة ، وأزمنة متفرقة ، فكلما وقع منها حادث نزل من القرآن ما يناسبه ، ويبين حكم الله فيه.
القسم الأول: الأقضية والوقائع التي كانت تحدث في المجتمع الإسلامي في عهد التشريع ، فيحتاج المسلمون إلى معرفة حكمها ، فتنزل الآيات مبينة حكم الله فيها.
القسم الثاني: الأسئلة التي كانت توجه إلى رسول الله  صلى الله عليه وسلم  من المسلمين ، أو من غيرهم ، والمقترحات التي كان المشركون يعرضونها عليه ، فكانت الآيات تنزل إجابة عن هذه الأسئلة ، وهذه المقترحات.
القسم الثالث: الشبهة التي كانت تختلج صدور المشركين وأعداء الإسلام ، ويظهر بها القول على ألسنتهم ، ليفتنوا ضعفاء الإيمان عن دينهم ، فكانت الآيات تنزل مفندة هذه الشبهة ، ومدحضة لها بالحجج البالغة ، والبراهين الدامغة.
القسم الرابع: لفت نظر المسلمين إلى ما قد يقعون فيه من خطأ وإرشادهم إلى جادة الصواب.
القسم الخامس: كشف حال أعداء الله المنافقين وهتك أستارهم وسرائرهم للنبي  صلى الله عليه وسلم  والمؤمنين ليكونوا على حذر منهم فيأمنوا شرهم ، وليفسح مجال للتوبة لمن شاء منهم أن يتوب.
القسم السادس: ما كانت تقتضيه حال المسلمين في أوقات السم والحرب.
وطبيعي أن هذه الأقسام الستة لمن تحدث دفعة واحدة في وقت واحد حتى تنزل الآيات المتعلقة بها جملة ، بل كانت في أزمنة متفاوتة ، وأوقات متعددة ، كما هو الشأن في أمثالهم فكانت الضرورة الحتمية التي لا مفر منها ولا محيص عنها تفضي بأن يكون نزول الآيات عند الحاجة إليها أوقع في النفوس ، وأشد جرياً على مقتضى الحكمة ، إذ ليس من المعقول أن تنزل آيات في وقائع لم تحدث بعد أو أجوبة عن أسئلة لم تخطر على فكر أحد ، ولا يتصور خلاف هذا إلا مصاب في تفكيره ، مطموس على بصيرته.
وهاك بيان هذه الأقسام وأمثلتها:
القسم الأول الأقضية والوقائع : ومن أمثلة هذا القسم حادثة مرثد الغنوي الذي أرسله النبي  صلى الله عليه وسلم  إلى مكة ليخرج منها قوماً مسلمين مستضعفين ، فلما وصل إليها عرضت امرأة مشركة نفسها عليه ، وكانت ذات مال وجمال فأعرض عنها خوفاً من الله تعالى ، ثم أقبلت عليه تريد زواجه منها فقبل ، ووقف زواجه منها على إذن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  فلما قدم المدينة عرض قضيته على رسول الله  صلى الله عليه وسلم  وطلب إجازة ذلك النكاح ، فنزل قوله تعالى : } ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن {الآية في سورة البقرة . ومن الأمثلة حادثة الوليد بن عقبة أخي عثمان رضي الله عنه لأمه بعثه النبي  صلى الله عليه وسلم  إلى بني المصطلق ليأخذ صدقاتهم ، وكان بينه وبينهم إحن وعداوات ، فلما سمعوا به استقبلوه ، فحسب أنهم مقاتلوه ، فرجع وقال لرسول الله  صلى الله عليه وسلم  ، أنهم ارتدوا ومنعوا الزكاة ، فهم الرسول بقتالهم ، فنزل قوله تعالى : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ {الحجرات6 ، ومنها حادثة خوله بنت ثعلب التي ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت ثم ندم على ما فعل وقال } ما أظنك إلا حرمت على { فشق ذلك عليها فأتت رسول الله  صلى الله عليه وسلم  وشكت إليه وقالت يا رسول الله إن لي منه صبية صغاراً إ:ن ضممتهم إلى جاعوا ، وإن ضممتهم إليه ضاعوا ، فقال ما أراك إلا قد حرمت عليه ، فاستقبلت السماء تشكو إلى الله تعالى فنزل قوله : } قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ {المجادلة1.
ومنها حادثة عويمر العجلاني وامرأته ، وحادثة هلال بن أمية وامرأته اللتان كانتا سبباً في نزول آيات اللعان وهي قوله تعالى : } وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ {النور6ـ إلى آخر الآيات ، ومنها حادثة فتنة اليهود التي أثاروها عندما حولت القبلة من جهة بيت المقدس إلى جهة المسجد الحرام أثاروها عندما حولت القبلة من جهة بيت المقدس إلى جهة المسجد الحرام بعد هجرة الرسول إلى المدينة بسبعة عشر شهراً تقريباً فنزلت فيها الآياتٍ من قوله تعالى : }سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ {البقرة ـ إلى قوله تعالى : } وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {البقرة150.   
ومنها حادثة الإفك: وفيها اتهام المثل الأعلى للطهر والنزاهة أم المؤمنين عائشة الصديقة وفيها نزلت الآيات من قوله تعالى في سورة النور } إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ {النور11 ـ إلى قوله تعالى : } أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ { النور26، إلى غير ذلك من الوقائع والحوادث التي يطول عدها واستقصاؤها .
القسم الثاني : الأسئلة التي كانت توجه إلى رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ، والمقترحات التي كان المشركون يعرضونها عليه ، وهذه الأسئلة على قسمين :
الأول : ما كان يقصد به التثبيت من رسالة النبي  صلى الله عليه وسلم  كالسؤال عن الروح والجواب عنه في قوله : } وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً  {الإسراء85، والسؤال عن ذي القرنين والجواب عنه في قوله تعالى : }وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ{الكهف83 إلى آخر الآيات التي وردت في شأن ذي القرنين في سورة الكهف.
الثاني:  ما كان يقصد به الوقوف على الحقيقة ومعرفة حكم الله كقوله تعالى في سورة البقرة : } {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ { البقرة219 ـ إلى قوله تعالى } إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ { وقوله تعالى : } يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى { ـ إلى قوله تعالى } وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ { ، وقوله تعالى : } وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ { النساء127 ـ إلى آخر الآية ، وقوله } يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ { النساء176 ـ إلى آخر سورة النساء ، ومن أمثلة المقترحات قوله تعالى حكاية عن المشركين } وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً { الإسراء90 ـ إلى قوله تعالى } قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً { الإسراء93، وقوله تعالى حكاية عنهم } وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ { الأنعام8 )) ـ إلى } وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ { الأنعام9، إلى غير ذلك من المقترحات.
فكان الرسول  صلى الله عليه وسلم  إذا وجه إليه سؤال من المسلمين أو من غيرهم أو اقترح عليه المشركون شيئاً نزلت الآيات بالجواب الشافي عن هذه الأسئلة وتلك المقترحات ، وظاهر جداً أنها لم تكن في وقت واحد بل كانت في أزمنة مختلفة ، فكان ضرورياً أن تنزل الآيات متفرقة في أزمنة مختلفة أيضاً.
القسم الثالث : الشبه التي كانت تختلج في صدور المشركين ، ومن أمثلتها والرد عليها من ما حكاه الله عنهم في قوله تعالى : } وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْماً وَزُوراً{4} وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا ً{ ـ إلى قوله تعالى }َ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً { الفرقان9 ومثلها الآيات التي وردت في الرد على منكري النبوة والبعث وغيرهما من عقائد الإسلام وهي كثيرة جداً في القرآن الكريم.
القسم الرابع : لفت أنظار المسلمين إلى هناتهم ، وردهم إلى الصواب ، وذلك نحو الآيات المتعلقة بغزوة أحد ف قوله تعالى (({وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ { آل عمران152ـ إلى آخر الآيات ، ونحو الآيات المتعلقة بغزوة حنين في قوله تعالى } وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً { التوبة25ً ـ إلى قوله تعالى } والله غفور رحيم { وهذه الآيات تنعى على المسلمين إعجابهم بأنفسهم واغترارهم بقوتهم ، وتذكرهم بنعم الله عليهم ، بإنزال الطمأنينة والأمن في قلوبهم ، وإنزال الملائكة لنصرتهم ، ثم تهيب بهم أن يثوبوا إلى رشدهم ، ويرجعوا لربهم.
ومن ذلك موقف المسلمين إزاء أسرى بدر ، وقبولهم الفداء وإطلاق سراحهم ، ثم عتاب الله لهم على هذا التصرف وإرشادهم إلى المحجة ، وذلك في قوله تعالى } مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ { الأنفال67ـ إلى قوله تعالى } إن الله غفور رحيم { وفي هذه الآيات تأنيب لهم على إيثار الدنيا على الآخرة ، وإرشاد لهم إلى ما كان يجب أن يعمل.
ويدخل في هذه القسم تنبيه الله نبيه  صلى الله عليه وسلم  إلى ما وقع منه واعتبر خلاف الأولى بالنسبة لمقامه الشريف ، وإن اعتبر في حق غيره حسنة (( من باب حسنات الأبرار سيآت المقربين )) ، وذلك نحو إذنه لجماعة من المنافقين في التخلف عن الجهاد ، ومعاتبة الله له على ذلك في قوله } عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ {التوبة43 ونحو إعراضه عن الأعمى الذي جاء مسترشداً ومعاتبة الله له بقوله } عَبَسَ وَتَوَلَّى{1} أَن جَاءهُ الْأَعْمَى{2} { ـ الآيات ،ونحو ما صدر منه في قصة زينب بنت جحش المذكورة في قوله تعالى } وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ { الأحزاب37 ـ الآية في سورة الأحزاب.
القسم الخامس : كشف حال المنافقين وهتك أسرارهم للنبي  صلى الله عليه وسلم  والمسلمين وسورة التوبة مفعمة بالآيات الشديدة اللهجة في التشنيع على المنافقين ، والتشهير بهم وسرد مثالبهم ، وتعداد قبائحهم ، وفي القرآن الكريم ـ غير ما في سورة التوبة ـ كثير من الآيات التي فضح الله فيها سرائر المنافقين ، وأطلع المسلمين على دسائسهم وإفسادهم ، ليكونوا دائماً على حذر منهم فيأمنوا شرهم ، لأنهم أخطر على الإسلام من الكفار المجاهرين ، ولعل هذا الإعلان يكون سبباً في إيمان البعض منهم.
اقرأ إن شئت قوله تعالى في سورة النساء } الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ { النساء141 ـ إلى آخر الآيات ، ثم اقرأ سورة المنافقين.
القسم السادس: وهو ما تقتضيه حال المسلمين في السلم والحرب فمن أمثلة الآيات التي كانت تنزل في أوقات السلم لتقرير عقائد الدين وبيان شرائع الإسلام ، وفضائل الأخلاق والآداب ، ومحاسن العادات ، وبيان جلائل العبر ، والسنن الاجتماعية في قصص الأنبياء والمرسلين والأمم الماضية ، وكذلك الآيات المتعلقة بشؤون الحرب كآيات الحث على الجهاد ، في سبيل الله دفاعاً عن العقيدة ، وتأميناً للحرية الدينية ، والآيات التي نزلت في الغزوات ـ سواء كانت في أثنائها ـ أم بعد انتهائها لتقرير الأحكام المتعلقة بها كالآيات التي نزلت في غزوة بدر وغنائمها في سورة الأنفال ، والآيات التي نزلت في غزوة أحد في آل عمران ، والآيات التي نزلت في غزوة بني النضير ، وفي كيفية قسم الفيء الذي أخذه المسلمون من أموالهم ، وذلك في سورة الحشر ،والآيات التي نزلت في غزوة الأحزاب في السورة التي سميت بهذا الاسم ، والآيات التي نزلت في غزوة الحديبية وهي في سورة الفتح ، والآيات التي نزلت في غزوة تبوك وهي في سورة التوبة.
وهذه الحكمة الرابعة بجميع ما تضمنته قد أشارت إليها هذه الآية الكريمة  } وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً { الفرقان33.
 
الحكمة الخامسة
التدرج في تربية الأمة العربية دينياً وخلقياً واجتماعياً
لعلنا لا نحتاج إلى الإطالة في بيان ما وصلت إليه الأمة العربية في جاهليتها من الفساد والانحطاط ، معتقدات زائغة ، وأخلاق مستهجنة وخرافات مزرية ، وعادات مرذولة ، إلى غير ذلك من ضعف وإنحلال ، فإن ذلك أمر معلوم لكل من له إلمام بتاريخ تلك الأمة ، وقد أفاض فيه المؤرخون إفاضة تجعل الواقف على حياتها يقطع بأنها كانت قد وصلت إلى درجة من الانحطاط ليس بعدها إلى التلاشي والزوال والخروج من عداد الأمم الحية.
ولئن كان قد بقي في بعض جهاتها أثارة من حضارة ، أو بصيص من نور المعرفة ببعض ما هو ضروري لحياتها فذلك لأن الأمم لا ينمحي ما كان فيها من علم وحضارة انمحاء تاماً مهما تكن منحلة ، ولكن ذلك البصيص كان مغموراً بظلمات داجية من الضلال والجهل ، ومدخولا بخرافات جعلته عديم الفائدة في ترقية تلك الأمة.
وقد جلى لنا القرآن الكريم ما كان في تلك الأمة من زيغ في المعتقدات وفساد في الأخلاق ، فصور لنا أمة عريقة في الوثنية ، تعبد من دون الله تعالى آلهة شتى ، وتتعصب لوثنيتها إلى أقصى حدود التعصب الذميم الذي يشل حركة الفكر عن إدراك الحق ، ويعمي عين البصيرة عن اجتلاء نوره فقال تعالى } وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ { يونس18.
} وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا { البقرة170 الآية في البقرة سرت إليهم هذه الوثنية من وثنية نصارى الرومان على يد عمرو بن لحي بعد أن فشا فيهم الجهل ، وانقطعت عن بلادهم آثار النبوة ، لتقادم عهد إسماعيل عليه السلام ، فوجدت من عقولهم وقلوبهم مرعى خصيباً ، فملكت موطن الأذعان من عقولهم ، وتغلغلت إلى مقر الوجدان من قلوبهم ، ومهد لها الجهل سبيلا إلى ذلك الاحتلال الذي أفسد معتقداتهم ، وعلى توالي الأعوام رسخت في أعماق شعورهم رسوخاً جعلهم يثورون ضد رسول الله  صلى الله عليه وسلم  عندما دعاهم إلى الإسلام وبين لهم فساد الوثنية ، ومنافاتها للفطرة ، ومجانبتها لمقتضى العقل.
وليس أدل على رسوخ الوثنية في قلوبهم من ادعائهم أن عقولهم عليها غلف وأكنه تحجبها عن إدراك ما يدعوهم إليه الرسول  صلى الله عليه وسلم  من عقيدة التنزيه ، وأن آذانهم قد صمت فلا تستمع إليه ، وأن على أبصارهم غشاوة تحجبها عن رؤية شواهد الحق في أقواله وأفعاله ، كما قال الله تعالى في بيان هذا الادعاء } وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ { فصلت5، وما تلك الأكنة والوقر والحجاب إلا الآفات التي أصابت مداركهم فأفقدنها ميزة الإدراك ، وصيرتهم كما وصفهم الله تعالى } وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ { الأعراف179، وصور لنا أخلاقهم وعاداتهم في صورة تدل على مبلغ انحطاطهم ، فيحدثنا أنهم كانوا يئدون البنات ، ويقتلون الأولاد خشية الإملاق ، ويشربون الخمر ، ويزنون سراً وعلنا ، ويقتلون النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق ، ويتعاملون بالربا الفاحش ، ويلعبون الميسر ، ويستقسمون بالأزلام ، ويرثون المرأة كما يورث المتاع ، ولا يعتبرون لها قيمة في الحياة ، وينكحون نساء الآباء ، ويجمعون بين الأختين ، ويكرهون الفتيات على البغاء ابتغاء عرض فان من حطام الدنيا ـ إلى غير ذلك من قبائحهم التي نعاها عليهم ، وحرمها عليهم تحريماً باتاً ، وبين لهم سوء آثارها في حياة الفرد والجماعة.
وإن في أخبار أيامهم وملاحمهم التي دونها المؤرخون لدلالة واضحة على ما كان فيهم من الأدواء الاجتماعية التي مزقت شملهم ، وقطعت حبال المودة بين قبائلهم وجعلتهم شيعاً متباغضة يتربص كل فريق منهم بغيره الدوائر ، ويغير عليه لأوهى الأسباب ، فكان جو الحياة الاجتماعية في ذلك العصر المظلم ملبداً بغيوم كثيفة من الفتن والفوضى والاضطراب ، والعداوات المضطرمة والأحقاد والضغائن المتواصلة التي لا تهدأ ثائرتها ولا يخبو ضرامها وكان اعتماد الناس إذ ذاك على وسائل الشر أكثر من اعتمادهم على وسائل الخير فتصور في نفسك أمة ذلك مبلغ انحطاطها ، هل كان من الميسور أن ينزل فيها لقرآن جملة واحدة بالإصلاح العام فيحولها عن تلك الأباطيل طفرة ؟ وهل كان استعدادها إذ ذاك يعدها لقبول ما فيه من أنواع الهداية والإقلاع عما كانوا فيه من المفاسد التي أحكمتها الوراثة الزمنية في نفوسهم حتى صارت جزءاً من نسيجهم العقلي ؟
إن دراسة طبائع الشعوب تدلنا على أن الطفرة في حياة الأمم محالة وأن محاولة تحويل أية أمة تحويلا فجائياً عن المبادئ الأساسية التي صارت بمرور الزمن من عناصر حياتها إنما هي محاولة فاشلة مقضي عليها بالخذلان ، وإن استقرار المبادئ الجديدة في مشاعر الأمة لا يكون إلا بعد مضي زمن كاف لاجتثاث المبادئ القديمة ، وغرس بذور المبادئ الجديدة في محلها ، ومن غفل من زعماء الإصلاح عن تلك الحقائق التي تؤيدها شواهد التاريخ فلا بد أن يكون نصيبه الفشل فيما يقوم به من دعاية الإصلاح ، تلك سنة الله في الأمم } وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً {.
فلو أن القرآن نزل جملة واحدة على رسول الله  صلى الله عليه وسلم  بتلك التعاليم التي هدمت صروح معتقدات العرب الباطلة ، وقوضت مبادئهم الخلقية والاجتماعية وقام الرسول  صلى الله عليه وسلم  يحاول أن يحولهم طفرة عما كانوا فيه من فساد إلى ما جاءهم به القرآن من مبادئ الإصلاح لكان من ذلك رد فعل شديد يأتي بعكس النتيجة المطلوبة من إنزاله ، ولما كان استعداد الأمة يهيؤها لقبول تعاليمه الحكيمة ، فكان من حكمة الله الذي يعلم طبائع الشعوب أن يأخذهم بسياسة التهذيب التدريجي ليكون تحولهم عما كانوا عليه أشبه ما يكون بالسنة الطبيعية في تدرج الكائنات الحية ، فأنزل الله إليهم القرآن تدريجياً بحسب المناسبات ودرجة استعدادهم لقبوله ليستل من قرارة نفوسهم جذور المفاسد ، ويغرس في مكانها بذور الهداية ، فكان نزوله على هذا النحو من أقوى العوامل في إنجاح دعوته ، وانتشار هدايته، ولذلك لم يمض على العرب زمن النبوة حتى كانت تعاليم القرآن قد امتزجت بنفوسهم امتزاجاً تاماً ، وجددت تجديداً قطع كل صلة بينهم وبين مفاسد الجاهلية البغيضة ، ونقلتهم من جهالة ووحشية إلى ثقافة ومدنية ، ومن تخاذل وتنافر إلى تآلف وتناصر ، حتى سادوا العالم كله ، ودانت لهم الشعوب بأسرها.
وعلى هذه السنة الحكيمة في سياسة التربية التدريجية كانت التكاليف الإسلامية تنز تدريجياً بحسب درجة استعداد الأمة لقبولها ، فنجد أن الإسلام كلف الناس أولا بالإيمان بالله تعالى ، ولفت أنظارهم إلى ما نصبه الله في كونه من الأدلة على كمال قدرته وتمام حكمته ، ثم نعى عليهم عبادتهم لهذه الأصنام التي كانوا ينحتونها بأيديهم ثم يعبدونها من دون الله تعالى ، وبين لهم أن هذه الأصنام لا تضر ولا تنفع ، ولا تغني عنهم من الله شيئاً ، ثم أقام لهم الأدلة القاطعة على أن هناك يوماً آخر يجزى فيه كل امرئ على ما قدم من خير أو شر ، حتى إذا اطمأنت نفوسهم إلى عقيدة الفطرة الصحيحة وهي التوحيد الخالص من شوائب الشرك ، واتصلت قلوبهم بخالق الكون الأعظم صاحب السلطة الغيبية العليا ، وخالق الأسباب والمسببات ، وواضع السنن والنواميس الكونية ، وأصبحت لا تذعن بالعبودية إلا له ـ انتقل بهم إلى العبادات فبدأ بأهمها ، ففرض عليهم الصلاة قبل الهجرة ، ثم ثنى بالزكاة وبالصوم في السنة الثانية من الهجرة ، ثم ثلث بالحج في السنة السادسة منها .
وكذلك كان الشأن في المحظورات لم يحرمها عليهم دفعة واحدة بل حظرها عليهم تدريجياً ، حتى إنه لم يحرم عليهم الخمر إلا بعد مضي ستة عشر عاماً من البعثة المحمدية ، ولم يحرمها عليهم بادئ ذي بدء تحريماً باتاً ، بل أنزل فيها نصاً يدل بعيد النظر على الكف عنها ، وإن لم يكون قاطعاً في تحريمها وهو قوله تعالى } يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا { ، ثم حرم شربها عليهم قرب وقت الصلاة حتى لا يدخل الوقت وهم سكارى ، وذلك في قوله تعالى } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ { النساء43 ـ الآية ، فلما أنست نفوسهم بتحريمها أنزل النص القاطع في التحريم وهو قوله تبارك وتعالى في سورة المائدة } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ { المائدة90.
فليس من الحكمة أن نغض الطرف عن هذه الساسة الحكيمة في تربية الأمة العربية بنزول القرآن تدريجياً ، وأن نغتر بقول الجاهلين } وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً { الفرقان32 فإن ذلك يدل على الجهل التام بطبائع الشعوب ، وطرق إصلاحها .
ويمكن أن تندرج هذه الحكمة تحت قوله تعالى في سورة الإسراء } وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ { الإسراء106 كما يمكن أن يفسر بها قوله تعالى في بيان أسرار التنجيم } وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً { الفرقان32 باعتبار أن التنوين للتعظيم إشارة إلى المعاني المنطوية تحت هذا الترتيل.
ومن جميع ما تقدم يتبين جلياً أن طبيعة الظروف المحيطة بالرسول  صلى الله عليه وسلم  والمسلمين استلزمت تنجيم القرآن استلزاماً حتمياً ، وأن نزوله مفرقاً كان مقتضى الحكمة الإلهية التي سميت عن عقول الذين اعترضوا على نزوله على هذا النحو ، واقترحوا أن ينزل جملة واحدة كما نزلت التوراة من قبل على موسى عليه السلام جملة واحدة في الألواح ، ولو أنهم تفطنوا لتلك الظروف لكفوا عن هذا الاقتراح الذي دل على سخافة عقولهم ، وفساد تصورهم وتفكيرهم.
 
كتابة القرآن
في عصر النبي  صلى الله عليه وسلم
كان القرآن ينزل على النبي  صلى الله عليه وسلم  فيحفظه ويبلغه للناس ، ويأمر كتاب الوحي بكتابته ، ويدلهم على موضع المكتوب من سورته ، فيقول لهم : ضعوا هذه السورة بجانب تلك السورة ، وضعوا هذه الآية بإزاء تلك الآية : وكان المكتوب يوضع في بيت رسول الله  صلى الله عليه وسلم  بعد أن ينسخ الكتاب لأنفسهم منه صورة [2].
ثم إن من الصحابة من كان يكتفي بتلقيه من فيه  صلى الله عليه وسلم  ، فيحفظه ، ومنهم من كان يكتسب السورة ، أو الآيات ، أو السور ، ومنهم من كتبه كله ، وحفظه جميعه.
وكانوا يكتبونه في العسب[3] ، واللخاف[4]، والرقاع[5] ، وقطع الأديم [6]، وعظام الأكتاف[7]، والأضلاع[8].
والذين اشتهروا بكتابة القرآن بين يدي النبي  صلى الله عليه وسلم  الخلفاء الأربعة ، ومعاوية بن أبي سفيان وأبان بن سعيد ، وخالد بن الوليد ، وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وثابت بن قيس ، وغير هؤلاء من أجلاء الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
ولم ينقض عهده  صلى الله عليه وسلم  إلا والقرآن مكتوب كله ، بيد أنه لم يكن مجموعاً في مكان واحد ، ولا مرتب السور.
وإنما لم يأمر النبي  صلى الله عليه وسلم  بجمع القرآن في مصحف واحد لأمرين:
الأول : أن اهتمام الصحابة إنما كان بحفظه واستظهاره لا بكتابته ونقشه.
الثاني: ما كان يترقبه الرسول  صلى الله عليه وسلم  من ورود زيادة ، أو ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته ، فلما انقضى نزوله بوفاته  صلى الله عليه وسلم  وأمن مجيء زيادة ، أو نسخ ـ ألهم الله تعالى الخفاء الراشدين أن يجمعوه في مكان واحد وفاء بوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة في قوله تعالى } إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ { الحجر9 فكان ابتداء ذلك على يد الصديق بمشورة عمر كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وكان الرسول عليه السلام يعارض جبريل بالقرآن مرة في شهر رمضان من كل عام ، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه به مرتين ، وروى البخاري عن فاطمة رضي الله عنه أنها قالت : (( أسر النبي  صلى الله عليه وسلم  إلى أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة مرة ، وأنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي ، وقد شهد زيد بن ثابت العرضة الأخيرة ولذلك اختاره أبوبكر لجمع القرآن كما سيأتي.
والخلاصة أن القرآن كان مكتوباً كله في العصر النبوي ، ولكنه لم يكن مجموعاً في مصحف واحد ولا مرتب السور ، بل كان مفرقاً في العسب والرقاع وغيرها كما تقدم ، وكان محفوظاً في صدور الصحابة ، إلا أن منهم من كان يحفظه كله لكثرة ملازمته للرسول  صلى الله عليه وسلم  ، كالخلفاء الأربعة وعبدالله بن مسعود وأبي بن كعب ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وزيد بن ثابت ، وكثير غيرهم ، ومنهم من كان بحفظه معظمه ، ومنهم من كان يحفظ بعضه ، والله تعالى أعلم.
 
جمع القرآن
في عهد أبي بكر وسببه
جمع القرآن : تطلق هذه الكلمة على معنيين
الأول : كتابته وتدوينه.
الثاني: كتابته وتدوينه.
أما المعنى الأول فقد تحقق بحفظ الرسول  صلى الله عليه وسلم  له في صدره وانتقاشه على صفحات قلبه ، وكذلك بحفظ كثير من الصحابة له في حياته  صلى الله عليه وسلم  ، منهم الأربعة الخلفاء ، وطلحة وسعد وحذيفة بن اليمان ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وأبوهريرة ، وابن عمر وابن عباس وعمرو بن العاص ، وابنه عبدالله ، ومعاوية ، وابن الزبير ، وعبدالله بن السائب ، وعائشة وحفصة وأم سلمة ، وحفظه في حياته  صلى الله عليه وسلم  أبي بن كعب ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت وأبو الدرداء ، ومجمع بن حارثة وأنس بن مالك وغيرهم.
وأما المعنى الثاني فقد تحقق في حياته  صلى الله عليه وسلم  أيضاً بكتابته وتدوينه بين يديه ، وإن كان مبعثراً في الأحجار والرقاع وغيرها كما سبق ، فلم ينتقل الرسول  صلى الله عليه وسلم  إلى الرفيق الأعلى إلا والقرآن كله محفوظ في صدور معظم أصحابه ، ومسجل فيما كتبوه من العسب واللخاف وغيرها.
ثم قام بأمر المسلمين بعده أحق الناس به أبو بكر الصديق رضي الله عنه بمبايعة الصحابة له ـ فحدث في عهده ما نبهه إلى وجوب جمع القرآن الكريم في مصحف واحد خشية عليه من التفرق والضياع فقد نشبت الحرب بينه وبين أهل الردة من أتباع مسيلمة الكذاب وغيرهم ، وكان من أكبر الملاحم التي اشتبكت فيها جموع المسلمين بجموع المرتدين موقعة اليمامة المشهورة وفيها قتل كثير من قراء الصحابة ، فلما وصل الخبر إلى المدينة هال ذلك عمر بن الخطاب ، فدخل على أبي بكر وأخبره الخبر وبين له ما يخشاه من ضياع القرآن إذا كثر القتل في قراء الصحابة ، واقترح عليه جمع القرآن ، فتردد أبو بكر أولا ، لأن ذلك أمر محدث لم تكن له سابقة في عهد الرسول  صلى الله عليه وسلم  ، وكان أبو بكر أحرص الناس على إتباع رسول الله عليه السلام ، ومجانبة كل ما لم يفعله.
ولأنه كره أن ينزل نفسه منزلة من يزيد احتياطه في الدين على احتياط الرسول ولكنه بعد نقاش طويل مع عمر رضي الله عنه اقتنع بصواب رأيه.
وتجلى له وجه المصلحة فيه ، وعلم أن ذلك الجمع ـ وإن لم يفعله الرسول ـ من أكبر وسائل حفظ القرآن الكريم ، وصيانته من الضياع وأنه ليس فيه شيء من الزيادة على احتياط الرسول ، بل هو مستمد من القواعد التي مهدها رسول الله بتشريع كتابة القرآن الكريم ، فأقدم على تنفيذ رأي عمر مراعاة لتلك المصلحة ، وكان موفقاً غاية التوفيق فيها ، كما كان موفقاً في غيرها من مهام الأمور التي قام بها.
فأرسل إلى زيد بن ثابت ـ بعد استشارة عمر ـ يدعوه إلى كتابة القرآن وجمعه في مكان واحد .
وإنما آثر الصديق زيداً بهذه المنقبة مع أن في الصحابة من هو أكبر منه سناً ، وأقدم إسلاماً ، وأكثر فضائل ، لأنه كان من أشهر الصحابة إتقاناً لحفظ القرآن الكريم كله ، ووعياً لحروفه ، وأداء لقراءاته ، وضبطاً لأعرابه ولغاته ، وكان مداوماً لكتابة الوحي للرسول عليه السلام ، وشهد العرضة الخيرة [9] صلى الله عليه وسلم  ، وكان مع ذلك عاقلا ورعاً ، كامل الدين والعدالة ، مأموناً على القرآن ، غير متهم في دينه ولا خلقه ، فاجتمع فيه من المزايا والخصائص ما لم يجتمع لغيره من أكابر الصحابة ، فلذلك اختاره أبو بكر للقيام بهذه المهمة العظمى. للقرآن في حياته
فلما حضر عرض عليه أبو بكر فكرة جمع القرآن ، واقترح عليه أن يتولى تنفيذها ، فتردد زيد في ذلك ، وناقش أبا بكر وعمر في هذه الفكرة فما زال به أبو بكر حتى اقتنع بصوابها ، ووجوب تنفيذها.
وشرع في ذلك ، فكان يتبع القرآن ويجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال ويتحرى أن يكون جمعه مما كتب بين يدي رسول الله  صلى الله عليه وسلم  تحرياً دقيقاً حتى أتم جمعه في صحف.
وإنما كان زيد يتتبع المكتوب في هذه الأشياء مع حفظه القرآن كله مبالغة في الضبط ، وزيادة في الاحتياط حتى تكون الكتابة معاضدة للحفظ ، ومؤازرة له.
وفي ذلك يروي البخاري عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: أرسل إلى أبوبكر مقتل[10] صلى الله عليه وسلم  ؟ قال عمر : هذا والله خير ، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك. أهل اليمامة [11] فإذا عمر بن الخطاب عنده ، قال أبو بكر رضي الله عنه إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحر [12] يوم اليمامة بقراء القرآن ، وإنني أخشى أن يستمر القتل في قراء القرآن بالمواطن فيذهب كثير من القرآن ، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن ، قلت لعمر : كيف تفعل ما لم يفعله الرسول
ورأيت في ذلك الذي رأى عمر ن قال زيد (( قال بو بكر )) إنك رجل شاب عاقل ، لا نتهمك ، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله  صلى الله عليه وسلم  ، فتتبع القرآن فاجمعه ، قال زيد (( فوالله لو كلفوني نقل بل من الجبال ما كان أثقل علي مما امرني به من جمع القرآن ، قلت كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله ؟ قال هو والله خير ، فلم يزل أبوبكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر ، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال ، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة [13]} لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ { التوبة128إلى آخر سورة براءة ، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ، ثم عند عمر حياته ، ثم عند حفصة بنت عمر. الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره ،
فأنت ترى من هذه الحديث أن جمع القرآن في مصحف واحد لأول مرة كان في عهد أبي بكر رضي الله عنه ، وكان قبل ذلك متفرقاً في العسب واللخاف وغيرها مما كانوا يكبون فيه ، وكان محفوظاً في صدور الرجال ، وقد ندب أبو بكر لجمعه زيد بن ثابت لأنه اجتمع فيه من المزايا ما أوجب تقديمه على غيره ، واختصاصه بهذا الأمر الجلل كما سبق.
 
ولما شرع زيد في جمعه اعتمد على مصدرين:
الأول: ما كان مكتوباً في عهد الرسول الأعظم  صلى الله عليه وسلم  .
الثاني: ما كان محفوظاً في صدور الحفاظ ، وكان يتوثق في الأخذ من المكتوب غاية التوثيق ، حتى يتيقن أنه مما كتب بين يدي رسول الله  صلى الله عليه وسلم  وأنه مما ثبت في العرضة الأخيرة ، وأنه لم تنسخ تلاوته ، ولذلك لم يكن يقبل شيئاً من المكتوب حتى يشهد شاهدان عدلان أنه كتب أمام الرسول عليه السلام يدلك على ذلك ما أخرجه ابن أبي داود من طريق يحيي بن عبد الرحمن بن حاطب ، قال (( قدم عمر [14] صلى الله عليه وسلم  شيئاً من القرآن فليأت من أحد شيئاً حتى يشهد شهيدان على أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله ، ولم يعتمد زيد على الحفظ وحده ، ولذلك قال في آخر سورة براءة أنه لم يجدها غلا مع أبي خزيمة أي لم يجدها مكتوبة إلا معه مع انه كان يحفظها ، وكان كثير من الصحابة يحفظونها ، ولكنه يريد أن يجمع بين الحفظ والكتابة ، زيادة في التوثيق ، ومبالغة في الاحتياط ، وقد راعي زيد في كتابة هذه الصحف أن تكون مشتملة على ما ثبتت قرآنيته بطريق التواتر ، واستقر في العرضة الأخيرة ، ولم تنسخ تلاوته ، وأن تكون مرتبة الآيات والسور جميعاً. فقال من كان تلقى من رسول الله
وأن تكون مجردة عما ثبتت قرآنيته بطريق الآحاد ، وعما ليس بقرآن من شرح أو تأويل.
وتم جمع القرآن على هذا النحو من صدور الحفاظ ، ومما كتب بين يديه عليه السلام بإشراف أبي بكر وعمر.
وكان جمعه في عهد الصديق رضي الله عنه من أجل مناقبه وأفضل مزاياه ، لأنه ضمن للمسلمين حفظ كتابهم من التفرق والضياع ، ولذلك قال علي رضي الله عنه (( أعظم الناس في المصاحف أجراً أبو بكر ، رحمة الله على أبي بكر ، هو أول من جمع كتاب الله تعالى ، أخرجه ابن أبي داود في المصاحف بسند حسن.
وإذا أمعنت النظر في صنيع أبي بكر في جمع القرآن في مكان واحد لا تستطيع الحكم عليه بأنه من البدع المستحدثة الخارجة ، ولا من الأمور الضارة الممقوتة ، بل هو مستمد من القواعد التي وضعها الرسول  صلى الله عليه وسلم  بتشريع كتابة القرآن ، واتخاذ كتاب يكتبون له الوحي المنزل ولذلك قال الإمام أبو عبدالله المحاسبي (( كتابة القرآن، ليست بمحدثة فإنه  صلى الله عليه وسلم  كان يأمر بكتابته ، ولكنه كان مفرقاً في الرقاع والأكتاف وغيرهما فإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان مجتمعة ، وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله  صلى الله عليه وسلم  وفيها القرآن منتشراً فجمعها جامع وربطها حتى لا يضيع منها شيء ، انتهى.
ظلت هذه الصحف التي جمع فيها القرآن في رعاية الخليفة الأول أبي بكر مدة خلافته ، ثم انتقلت بعده إلى رعاية الخليفة الثاني عمر بن الخطاب مدة خلافته ، ثم عند حفصة بنت عمر بعد وفاة أبيها ،وبقيت عندها إلى أن ولي مروان المدينة فطلبها منها فأبت ، فلما توفيت حضر جنازتها وطلبها من أخيها عبدالله فبعث بها عليه فأمر بإحراقها ، وقال إنما فعلت ذلك لأني خشيت إن طال بالناس زمان أن يرتاب في شأن هذه الصحف مرتاب[15].
ولم يأمر مروان بإحراق هذه الصحف إلا بعد أمر عثمان رضي الله عنه بنسخ المصاحف العثمانية وإرسالها إلى الأمصار ، وأمره بإحراق كل ما عداها من المصاحف والصحف كما سيأتي قريباً إن شاء الله تعالى.
 
جمع القرآن في عهد عثمان وسببه
بقيت تلك الصحف التي كتبها زيد بأمر الخفيفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه عند حفصة أم المؤمنين صدراً من خلافة عثمان ، ويومئذ اتسعت الفتوح ، وتفرق المسلمون في الأمصار والأقطار ، وكان أهل كل إقليم من أقاليم الإسلام يأخذون بقراءة من اشتهر بينهم من الصحابة ، فأهل الشام يقرءون بقراءة أبي موسى الأشعري وهكذا.
فكان بينهم اختلاف في وجوه القراءة ، ومنشأ هذا الاختلاف إنزال القرآن على سبعة أحرف كما ثبت ذلك عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  بطريق التواتر ، وكان الذي يسمع هذا الاختلاف من أهل تلك الأمصار إذا احتوتهم المجامع ، ا, التقوا على جهاد أعدائهم يعجب من ذلك ، وكان هذا الاختلاف مدعاة إلى فتح باب الفرقة والشقاق بين المسلمين في قراءة القرآن الشريف ، فقد كان كل فريق يدعي أنه الذي على الحق ، وإن غيره على الباطل ، وكان بعضهم يفخر على بعض بقراءته معتقداً أنها الصواب وحدها فيقول لغيره قراءتي خير من قراءتك ، ويرد عليه الآخر بالمثل وهكذا حتى أفضى ذلك بهم إلى تأثيم بعضهم على بعض.
وفي السنة الثانية أو الثالثة ـ على اختلاف الروايات ـ من خلافة عثمان رضي الله عنه سنة خمس وعشرين من الهجرة اجتمع أهل الشام وأهل العراق في غزوة أرمينية وأذربيجان وكان فيمن غزاها مع أهل العراق حذيفة بن اليمان فرأى كثرة اختلاف المسلمين في وجوه القراءة ، وسمع ما كانت تنطق به ألسنتهم من كلمات التجريح والتأثيم ، حين اختلافهم في أوجه القراءة ، فاستعظم ذلك حذيفة وأكبره ، ففزع على عثمان الخليفة وأخبره بالذي رأى وقال له : أدرك الناس قبل أن يختلفوا في كتابهم الذي هو أصل الشريعة ، ودعامة الدين ، كما اختلف اليهود والنصارى ، فأدرك عثمان بثاقب نظره ، وحصافة رأيه أن وراء هذا الاختلاف شراً مستطيراً ، وفتنة كبرى لا قبل للمسلمين بهما.
وأن هذه الفتنة ـ إن لم تعالج بالحكمة والحزم ـ ستجر ـ لا محالة ـ إلى أسوأ العواقب وأوخم النتائج ، ففكر في علاجها قبل أن يستفحل خطرها ، ويتفاقم شرها ، فجمع أعلام الصحابة وذوي الرأي منهم ، وأخذوا يبحثون عن علاج لهذه الفتنة ، ووضع حد لهذا الاختلاف ، فأجمعوا رأيهم على نسخ مصاحف يرسل لكل مصر مصحف منها يكون مرجعاً للناس عند الاختلاف وموئلا عند التنازع ، وعلى إحراق ما عدا هذه المصاحف ، وبذلك يستأصل دابر الخلاف ، وتجتمع الكلمة ، وتوحد الصفوف.
ثم شرع عثمان في تنفيذ ما أجمعوا عليه ، وندب للقيام بهذه المهمة الخطيرة أربعة من أجلاء الصحابة ، وثقات الحفاظ ، وهم زيد بن ثابت ، وهو الذي اختاره أبو بكر لجمع القرآن لما امتاز به من المناقب السابقة ، وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وهؤلاء الثلاثة قرشيون ، وأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف التي عندك فأرسلتها إليهم فأخذوا في نسخها ، وجاء في بعض الروايات أن الذين ندبوا لنسخ المصاحف اثنا عشر رجلا من المهاجرين والأنصار ، منهم أبي بن كعب.
 
قانون عثمان في كتابة المصاحف
كان نسخ هذه المصاحف بإشراف الخليفة عثمان، وأعلام الصحابة من المهاجرين والأنصار، وكانوا لا يكتبون في هذه المصاحف شيئاً إلا بعد أن يعرض على الصحابة جميعاً، ويتحققوا أنه قرآن، وأنه لم تنسخ تلاوته ، وأنه استقر في العرضة الأخيرة، فلم يكتبوا ما نسخت تلاوته، ولا ما لم يكن في العرضة الأخيرة، ولا ما كانت روايته آحاداً، ولا ما ليس بقرآن ، كالذي كان يكتبه بعض الصحابة في مصاحفهم الخاصة شرحاً لمعنى، أو بياناً لناسخ أو منسوخ أو نحو ذلك.
وقد كتبوا مصاحف متعددة [16] وسنقفك على عددها قريباً إن شاء الله تعالى، لأن عثمان قصد إرسال ما وقع عليه إجماع الصحابة إلى الأقطار الإسلامية، وهي أيضاً متعددة، وكتبوا هذه المصاحف متفاوتة في الحذف، والإثبات، والنقص، والزيادة، وغير ذلك، لأنه قصد اشتمالها على الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن الكريم ن وجعلت خالية من النقط والشكل، تحقيقاً لهذا الغرض أيضاً.
فالكلمات التي اشتملت على أكثر من قراءة، وخلوها من القط والشكل يجعلها محتلمة لما اشتملت عليه ، من قراءات كتبوها برسم واحد في جميع المصاحف ، وذلك نحو } فَتَبَيَّنُوا { في الحجرات ، و } نُنشِزُهَا { في البقرة ، } هَيْتَ لَكَ { في يوسف ، و } أُفٍّ { في الإسراء والأنبياء والأحقاف.
أما الكلمات التي وردت على قراءتين أو أكثر ، وتجريدها من النقط والشكل لا يجعلها محتملة لما ورد فيها من القراءات لم يكتبوها برسم واحد في جميع المصاحف ، وإنما كتبوها في بعض المصاحف برسم يدل على قراءة ، وفي بعضها برسم آخر يدل على القراءة الأخرى نحو } وأوصى بها إبراهيم { في البقرة رسمت في بعض المصاحف بواوين قبل الصاد من غير ألف ، وفي بعضها بإثبات الألف بين الواوين ، ونحو } وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ { بآل عمران ، رسم في بعض المصاحف بواو قبل السين ، وفي بعضها بحذف الواو ، ونحو } فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ { في الحديد كتبت في بعض المصاحف بإثبات ضمير الفصل ، هو ، وفي بعضها بحذفه.
وإنما لم يكتبوا هذا النوع من الكلمات برسمين معاً ، في مصحف واحد خشية أن يتوهم أن اللفظ نزل مكرراً بقراءة واحدة ، وليس كذلك ، بل هما قراءتان ، نزل اللفظ في إحداهما بوجه ، وفي الثانية بوجه آخر ، من غير تكرار في واحد منهما.
وكذلك لم يكتبوا هذه الكلمات برسمين أحدهما في الأصل ، والثاني في الحاشية لئلا يتوهم أن الثاني تصحيح للأول ، وأن الأول خطأ.
على أن كتابة أحدهما في الأصل ، والآخر في الحاشية تحكم وترجيح بلا مرجح والذي دعا الصحابة إلى سلوك هذا المنهج في كتابة المصاحف أنهم تلقوا القرآن عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  بجميع وجوه قراءاته وحروفه التي نزل بها ، فكانت هذه الطريق أدنى إلى الإحاطة بالوجوه التي نزل عليها القرآن الكريم وحينئذ لا يقال أنهم اسقطوا شيئاً من قراءاته ، لأنها كلها منقولة متواترة عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم .
ومن هنا يتضح جلياً أن اختلاف القراء الذي أفرغ حذيفة وعثمان ، وكان سبباً في كتابة المصاحف إنما كان في أحرف وقراءات تلقاها قراؤهم قبل العرضة الأخيرة ثم نسخت بهذه العرضة ، ولكن نسخها لم يبلغ هؤلاء القراء.
وإلا لو كان مقصد عثمان جمع الناس على حروف واحد وإلغاء باقي الأحرف التي نزل القرآن الكريم ما جعل المصاحف متفاوتة في الزيادة والنقص ن والإثبات والحذف إلى آخر ما سبق ، فكتابة المصاحف على هذه الكيفية دليل قاطع على أن عثمان أراد جمع الناس على ما تواتر من القراءات ، دون ما نسخ ، أو شذ منها.
وسيأتي لذلك مزيد بحث إن شاء الله تعالى.
وكان من قانون عثمان في كتابة المصاحف أيضاً أنه قال لهؤلاء القرشيين الثلاثة (( إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم )) ففعلوا ، وقد ورد أنهم اختلفوا في كتابة (( التابوت )) في قوله تعالى في سورة البقرة } إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ َ{ الآية، فقال زيد (( التابوه )) بالهاء، وقال القرشيون (( التابوت )) بالتاء المفتوحة ، فرفعوا أمرهم إلى عثمان فأمرهم أن يكتبوه بالتاء المفتوحة لأنه كذلك في لغة قريش.
ولما أتموا نسخ الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة أم المؤمنين ، وأرسل إلى كل أفق من الآفاق الإسلامية مصحفاً مما نسخوا ، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق سداً لباب الشر والفتنة ن وحسماً لمادة النزاع ، وحملا للمسلمين على أن يجعلوا هذه المصاحف مرجعهم الوحيد ، وأصلهم المعتمد.
وفي ذلك يروي البخاري أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان ن وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق ، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة ، فقال حذيفة لعثمان يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها ثم نردها غليك ، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت ، وعبد الله بن الزبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف ، وقال عثمان للرهط القرشيين إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق ، انتهى.
وروى أبو قلابة أن عثمان رضي الله عنه كتب إلى أهل الأمصار يأمر بمحو ما عندهم مما يخالف مصحفه ، ولكن أكثر الروايات على انه أمرهم بإحراقها.
قال بعض الأفاضل وإنما لم يحرق عثمان صحف حفصة كما أحرق غيرها لأن هذه الصحف اعتبرت مصدراً واصلا لمصحفه ، وانعقد عليها إجماع الصحابة وأما غيرها فقد تكون مخالفة لمصاحفه فتكون سبباً للاختلاف.
 
الفرق بين كتابة القرآن في العهد النبوي
وكتابته في عصري الخليفتين الأول والثالث
بقليل من التأمل فيما سبق تعرف أن القرآن الكريم جمع ـ بمعنى كتب ـ ثلاث مرات:
الأول : في العهد النبوي الشريف.
الثاني: في عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
الثالث: في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وبقليل من التأمل فيما سبق أيضاً تستطيع أن تفرق بين كتابة القرآن في هذه العهود الثلاثة ، فالجمع في العهد النبوي عبارة عن كتابة الآيات ن وترتيبها ، ووضعها في مكانها الخاص من سورها ، ولكن مع بعثرة الكتابة وتفرقها بين عسب وعظام وغيرها كما تقدم ، وكان المقصود من كتابة القرآن في هذه الأشياء زيادة التحري في ضبط ألفاظه ، وحفظ كلماته ، فوق ما في ذلك من تقديس القرآن ، والتنبيه على سمو قدره ورفعة شأنه كما هو الشأن في تقييد الأشياء النفيسة ، وإن كان المعول عليه في ذلك الوقت مجرد الحفظ في الصدور.
والجمع في عهد الصديق أبي بكر عبارة عن نقل القرآن جميعه وكتابته في مكان واحد وهو الصحف مرتب الآيات والسور ، مقتصراً فيه على ما ثبتت قرآنيته بطريق التواتر ، وكان الغرض منه الاحتياط والمبالغة في حفظ هذا الكتاب خوفاً عليه أو على شيء منه بموت حملته وحفاظه.
وأما الجمع في عهد الخليفة عثمان فهو عبارة عن نقل ما في الصحف السابقة في مصاحف ، وإرسال هذه المصاحف إلى الأقطار الإسلامية ، وكان المقصود من جمع القرآن وكتابته في هذه المصاحف أن يجتمع المسلمون فر قراءة القرآن على ما تضمنته هذه المصاحف من القراءات الثابتة عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  بطريق التواتر ، ويطرحوا ما عداها من القراءات التي نزلت أولا للتيسير على الأمة ثم نسخت بالعرضة الأخيرة ، تلك القراءات التي كان يقرؤها من لم يبلغه نسخها ، وكانت مثار فرقة وشقاق بين المسلمين ، وبذلك يقضي على الفتنة التي ظهرت في صفوف المسلمين ، وتوحد كلمتهم ، وتكون هذه المصاحف مرجع المسلمين يحتكمون إليها عند الاختلاف ويلجئون إليها عند التنازع.
قال القاضي أبو بكر الباقلاني (( لم يقصد عثمان قصد أبي بكر في نفس جمع القرآن بين لوحين ، وإنما قصد جمع الملمين على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي  صلى الله عليه وسلم  وإلغاء ما ليس كذلك ، وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير ، ولا تأويل أثبت مع تنزيل ، ولا منسوخ تلاوته كتب مع مثبت رسمه ، ومفروض قراءته وحفظه ، خشية دخول الفساد ، والشبهة على من يأتي بعد )) انتهى.
 
عدد المصاحف العثمانية
اختلف العلماء في عدد المصاحف التي أرسلها الخليفة عثمان إلى الآفاق على أقوال كثيرة ، أصحها أنها ستة ، مصحف للبصرة ، وآخر للكوفة ، وثالث للشام ، ورابع لمكة ، وخامس للمدينة ،وهو المدني العام ، والسادس حبسه عثمان لنفسه ، وهو المدني الخاص ويسمى (( المصحف الإمام )) ، ولعل إطلاق هذا الاسم عليه نظراً لأنه الذي نسخ أولا، ومنه نسخت المصاحف الأخرى ، ولا مانع من إطلاق هذا الاسم على جميع المصاحف المذكورة ، لاقتداء أهل الأمصار بها.
 
(( كيف أرسلت المصاحف العثمانية إلى الأمصار ))أفنبستلنمستلتاشسيلتا تع
إن نقل القرآن الكريم إنما يعتمد على التلقي والأخذ من أفواه الشيوخ خلفاً عن سلف ، وثقة عن ثقة ، وإماماً عن إمام ، حتى يصلوا للحضرة النبوية ، ولذلك لما أراد عثمان إذاعة المصاحف وإرسالها إلى الأمصار لم يرسلها وحدها لتكون المرجع الوحيد ، بل أرسل مع كل مصحف إماماً عدلا ضابطاً ، تكون قراءته موافقة ملا في هذا المصحف غالباً ، فأمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمصحف المدني ، وبعث عبد الله بن السائب مع المصحف المكي ، والمغيرة بن شهاب مع الشامي وأبا عبد الرحمن السلمي مع الكوفي ، وعامر بن قيس مع البصري.
ثم نقل التابعون عن الصحابة فقرأ أهل كل مصر بما يوافق مصحفهم تلقياً عن الصحابة الذي تلقوه من فيه  صلى الله عليه وسلم  ، فقام التابعون في ذلك مقام الصاحبة.
ثم تفرغ جماعة للقراءة والإقراء ، والتعلم وللتعليم ، حتى صاروا أئمة يقتدي بهم ، ويؤخذ عنهم ، وأجمعت الأمة وهي معصومة من الخطأ في إجماعها على ما في هذا المصاحف على ترك ما سواها مما فيه زيادة أو نقص عنها ، أو تقديم أو تأخير أو غير لأنه لم يثبت عندهم ثبوتاً متواتراً أنه من القرآن .
 
(( موقف المسلمين إزاء المصاحف العثمانية ))
لما أمر عثمان رضي الله عنه ينسخ المصاحف وكتابتها على ما ثبت في العرضة الأخيرة وترك ما سوى ذلك ـ وقف منه الصحابة جميعاً موقف التأييد والمؤازرة ، واستجابوا لندائه ، فحرقوا مصاحفهم ، واجتمعوا على المصاحف العثمانية.
وأما ما ورد من أن عبد الله بن مسعود أنكر بادئ ذي بدئ على عثمان عمله في المصاحف فلأنه آثر عليه في كتابتها ، زيد بن ثابت ـ مع قدم إسلام ابن مسعود على زيد ، ولكنه ما لبث أن رجع ، وأقر ما صنعه عثمان ، واتفقت عليه كلمة الصحابة ، أخرج ابن أبي داود بسند صحيح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لا تقولوا في عثمان إلا خيراً ، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا ، قال : ما تقولون في هذه القراءة ، فقد بلغني أن بعضهم يقول إن قراءتي خير من قراءتك وهذا يكاد يكون كفراً ، قلنا فما ترى قال : أرى أن يجمع الناس على مصحف واحد ، فلا تكون فرقة ولا اختلاف ، قلنا : فنعم ما رأيت ، انتهى.
وورد عن علي أنه قال : لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل الذي فعل عثمان ، انتهى.
أما أهل الأقاليم الذين أرسلت إليهم المصاحف فقد وقفوا منها موقف التقديس والإكبار ، لأنهم علموا أن كتابة هذه المصاحف لم يكن عملا فردياً استقل به شخص ما ن وإنما هو إجماع من أصحاب رسول الله  صلى الله عليه وسلم  الذين مدحهم الرسول وأثنى عليهم بما هم جديرون به ن فقال : (( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ )) ، وقال : (( أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم )) ، فلذلك وقفوا منها هذا الموقف المحمود ، وتلقوها بالرضا والقبول ، وجعلوها مصدرها الوحيد ، يقتدون بها ، ويقتفون أثرها.
 
اشتمال المصاحف العثمانية على الأحرف السبعة
ذهب فريق من العلماء إلى أن المصاحف العثمانية ليس فيها إلا حرف واحد من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها وهو حرف قريش خاصة.
واحتجوا على ذلك بأن القرآن نزل بلغة قريش ، بدليل أن الخليفة عثمان رضي الله عنه قال لكتاب المصاحف : (( إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم )).
ثم قالوا: وأما باقي الأحرف التي نزل عليها القرآن فإنما أنزلت في ابتداء الأمر في صدر الإسلام للتيسير على الأمة ، ورفع الحرج والمشقة عنها ن في قراءة كتاب ربها ن لأن إلزام جميع القبائل العربية بالتزام لغة واحدة في قراءة القرآن لم تتعودها ألسنتهم ، ولم يألفوا التكلم بها في مخاطباتهم يوقعهم في الإصر والعنت ، والمشقة والحرج ، فتخفيفاً على الأمة ن ورفعاً للحرج والمشقة عنها ن وتيسيراً عليها في قراءة القرآن الكريم أنزل القرآن في بادئ الأمر على سبعة أحرف وأبيح لكل قبيلة أن تقرأه بلغتها إلى أن تروض لسانها وتمرنه على لهجة قريش لهجة القرآن ، فلما ذللت الألسن ن ومرنت على لغة قريش لغة القرآن ، وأصبح النطق بكلمات القرآن سهلا ميسوراً على لسان كل قبيلة لم يكن قم حاجة إلى هذه الأحرف واللغات، وأمرت جميع القبائل أن تقرأ القرآن بلغة قريش خاصة يضاف إلى ذلك قراءة القرآن بهذه اللغات ـ غير لغة قريش ـ أصبحت مثار نزاع وخلاف بين المسلمين.
فلعدم الحاجة إلى هذه اللغات، ولأنها كانت سبباً في انقسام المسلمين ألغاها الخليفة عثمان رضي الله عنه، حين كتابة المصاحف، وأمر كتاب المصاحف أن يقتصروا في كتابتها على لغة واحدة ، وحرف واحد هي لغة قريش وحرف قريش.
وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف إلى أن المصاحف العثمانية مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة ، ومتضمنة ما ثبت من القراءات المتواترة في العرضة الأخيرة ، لأن المصاحف ـ كما علمت ـ كانت خالية من النقط والشكل فكانت محتملة للأحرف السبعة ، لا على أن معنى كل مصحف منها مشتمل على جميع الأحرف السبعة ، بل على معنى أن كل مصحف منها مشتمل على ما يحتمله رسمها من هذه الأحرف ، وأن مجموعها لا يخلو عن الأحرف السبعة ، فالأحرف السبعة منتشرة في المصاحف الستة ، ومتفرقة فيها ، فقراءة } وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ { في البقرة لم توجد في المصحفين المدني والشامي ، ولكنها وجدت في غيرهما ، وقراءة } تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ { بزيادة كلمة (( من )) في سورة التوبة في الموضع الأخير منها موجودة في المصحف المكي دون غيره من المصاحف ، وهكذا.
وأما القراءات الثابتة في مثل } فَتَبَيَّنُوا { في الحجرات ، و } هَيْتَ لَكَ { في يوسف فكل مصحف يحتملها ضرورة خلو جميع المصاحف مجتمعة لوجدتها مشتملة على الأحرف السبعة ولوجدت هذه الأحرف مبثوثة فيها.
وهذا المذهب هو الذي يطمئن إليه القلب ، ويهدي إليه النظر ، وترشد إليه البراهين ، وهاك بيانها:
الأول : أن المصاحف العثمانية قد نسخت من الصحف التي أمر الصديق بجمع القرآن فيها ، وقد أجمع العلماء على أن هذه الصحف قد سجل فيها ما تواتر ثبوته عن النبي  صلى الله عليه وسلم  من الأحرف السبعة واستقر في العرضة الأخيرة ، ولم تنسخ تلاوته ، فصحف أبي بكر تعتبر أصلا ومصدراً لمصاحف عثمان رضي الله تعالى عنهما.
الثاني : لم يرد في خبر صحيح ولا ضعيف أن عثمان الخليفة أمر كتاب المصاحف أن يقتصروا في كتابتها على حرف واحد ، ويلغوا الستة الباقية.
الثالث: لا يكاد يصدق مؤمن يعرف للصحابة قدرهم في قوة دينهم وتقديسهم كتاب ربهم ، وذودهم عنه بأرواحهم لاعتقادهم أن فيه سعادتهم في الدارين ، وهناءتهم في الحياتين ـ أقول : لا يدور بخلد مؤمن أن هؤلاء الصحابة وهم كثرة كاثرة ـ وكانوا وقتئذ اثني عشر ألفاً أو يزيدون ـ يقرون عثمان على إلغاء ما تواترت قرآنيته عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  مهما كانت البواعث على ذلك.
على أن جمع كلمة المسلمين ، ولم شعثهم ، واستئصال بذور الشقاق من قلوبهم لا يحمل عثمان على إبطال شيء من القرآن الكريم ، بل عليه ـ والحالة هذه ـ أن يأمر بكتابة ما ثبتت قرآنيته بالتواتر من الأحرف السبعة ، واستقر في العرضة الأخيرة ، وأن يلزم الأمة بالوقوف عند هذا المتواتر ، ويعلمها أن ما عداه من الوجوه التي نزلت في ابتداء الأمر للتيسير قد نسخت بالعرضة الأخيرة ، فلا تجوز القراءة بها ولا اعتقاد قرآنيتها ، وبذلك تقمع الفتنة ، وتجمع الكلمة وتوحد الصفوف ، وهذا هو ما قام به الخليفة عثمان رضي الله عنه ووافقه عليه صحابة رسول الله  صلى الله عليه وسلم .
الرابع : لو كان صحيحاً ما يدعيه الفريق الأول من أن عثمان أمر الكتاب أن يقتصروا على لغة قريش ويتركوا ما سواها لكان القرآن خالياً من جميع اللغات إلا من لغة قريش ، وهذا باطل ، لأن في القرآن كلمات كثيرة من اللغات الأخرى غير لغة قريش فوجود هذه الكلمات في القرآن من أوضح الأدلة على أن المصاحف لم يقتصر في كتابتها على لغة قريش ، بل كتب فيها من الأحرف السبعة ما ثبت بطريق التواتر ولم ينسخ.
وهاك بعض الأمثلة لهذه الكلمات:
روى أبوعبيد عن الحسن قال : كنا لا ندري ما الأرائك حتى لقينا رجل من أهل اليمن فأخبرنا أن الأريكة عندهم الحجلة فيها السرير.
وعن الضحاك في قوله تعالى } كَلَّا لَا وَزَرَ { قال لا حيل وهي بلغة اليمن أيضاً.
وأخرج أبو بكر الأنباري عن ابن عباس في قوله تعالى } أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ { قال ابن عباس : أفلم يعلموا ، وهي لغة هوازن.
وورد أن قوله تعالى } لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً { لا يقصكم ، وهي بلغة عبس وهكذا.
الخامس: أن الأدلة متظاهرة ، والبراهين متناصرة على أن بين المصاحف العثمانية اختلافاً في مواضع كثيرة.
منها قوله تعالى } وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ { بآل عمران كتب في بعض المصاحف بواو قبل السين ، وفي بعضها بحذف الواو.
ومنها قوله تعالى } وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ { بالشعراء ، كتب في بعض المصاحف بالواو في (( وتوكل )) ، وفي بعضها بالفاء بدلا من الواو.
ومنها قوله تعالى } وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ { في يس كتب في بعضها بثبوت الهاء بعد التاء في عملته ، وفي بعضها بحذف الهاء.
ومنها } وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ { في الحديد كتب في بعض المصاحف بإثبات لفظ هو ، وفي بعضها بحذفه.
ومنه } وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا { في الشمس ، كتب في بعضها بالواو في ولا ، وفي بعضها بالفاء بدلا عن الواو ، إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة.
فلو كانت المصاحف مكتوبة بلغة واحدة وحرف واحد وهي لغة قريش وحرف قريش لم يكن هناك اختلاف بينها.
فوجود الاختلاف بين المصاحف من أبين الأدلة وأوضح البراهين على أنها لم تكتب بحرف واحد ، بل كتبت متضمنة للأحرف السبعة كما قدمنا.
وأما ما استدل به الفريق الأول على مذهبه من قول عثمان لكتاب المصاحف (( إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ، فإنما نزل بلسانهم ففعلوا )) فلا ينهض حجة لهذا الفريق ، لأن عثمان رضي الله عنه لا يريد من الاختلاف في قوله (( إذا اختلفتم )) ـ الخ إلا الاختلاف من حيث الرسم والكتابة ، لا من حيث جوهر الألفاظ ،وبنية الكلمات .
فمعنى كلامه : إذا اختلفتم في رسم كتابته فاكتبوه بالرسم الذي يوافق لغة قريش ولهجتها ، ويتعين حمل كلام عثمان على هذا كي يمكن الجمع بين الأدلة ، والتوفيق بين البراهين.
على أن كتاب المصاحف لم يختلفوا ـ فيما وصل إلينا ـ إلا في رسم كلمة واحدة وهي (( التابوت )) في قوله تعالى في سورة البقرة } إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ { هل ترسم بالتاء أو بالهاء ؟ فرجعوا إلى عثمان رضي الله عنه ، فأمرهم أن يرسموها بالتاء لأنها ترسم بها في لغة قريش.
وقول عثمان رضي الله عنه : فإنما نزل بلسانهم لا حجة فيها لهذا الفريق أيضاً لأن القرآن أنزل أولا بلسان قريش ، لأنهم هم المقصودون أولا.
ثم وسع الله على الأمة بإنزاله باللغات الأخرى كما دلت على ذلك صحاح الأحاديث ، فمذهب جماهير العلماء هو الحق الذي لا مراء فيه ، وهو الصواب الذي لا معدل عنه.
 
ما اشتهر من المصاحف في عهد الصحابة
 اشتهر في عهد الصحابة مصاحف أخرى غير المصاحف العثمانية التي سبق الكلام عليها ، بيد أن هذه المصاحف لم تظفر بما ظفرت به المصاحف العثمانية ن من إجماع الصحابة عليها . ورضاهم بها ن ووقوفهم عندما تضمنته من الأوجه والقراءات ، ولم نحرز عند أهل الأقاليم والأمصار ما أحرزته المصاحف العثمانية من الثقة والقبول.
ذلك أن هذه المصاحف كانت مصاحف فردية خاصة ، كتبها بعض الصحابة لنفسه ، ولم يقتصر في كتابتها على ما تواترت قراءته ، وثبت في العرضة الأخيرة ، بل كتب فيها ما كانت روايته آحاداً ن وما نسخت تلاوته .
وما لم يكن في العرضة الأخيرة ، وخلط فيها بين ألفاظ القرآن ، وما كان شرحاً لها وبياناً لمغزاها.
وهذه المصاحف تختلف عن مصاحف عثمان تارة بالزيادة ، وأخرى بالنقص ومرة بالتقديم ، وأخرى بالتأخير ن وهكذا.
وعلى كل لا تصح القراءة بما تضمنته هذه المصاحف لمخالفتها ما أجمع عليه الصحابة ن وتلقته الأمة كلها بالرضا والقبول.
وهاك أنموذجاً من هذه المصاحف.
 
مصحف عمر بن الخطاب
كتب في سورة الفاتحة } صِرَاطَ من أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَغير الضَّالِّينَ {.
وفيه أول سورة آل عمران } آلم * اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ {.
وفيه في سورة المدثر } في جنات يتساءلون يا فلان ما سكلك في سقر {.
 
مصحف علي بن أبي طالب
كتب فيه في سورة البقرة } آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه وآمن المؤمنون {.
 
مصحف عائشة أم المؤمنين
كتب فيه في سورة البقرة } حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر {.
 
مصحف حفصة أم المؤمنين
كتب فيه } حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر {.
 
مصحف أم سلمة أم المؤمنين
وفيه ما في مصحف حفصة.
 
مصحف عبدالله بن الزبير
كتب فيه في سورة البقرة } ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج {.
وفيه في سورة المائدة } فيصبح الفساق على ما أسروا في أنفسهم نادمين {.
وفيه في آل عمران } ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم {.
 
مصحف أبي بن كعب
كتب فيه في البقرة } فلا جناح عليه ألا يطوف بهما {.
وفي البقرة أيضا } للذين يقسمون من نسائهم {.
وفي النساء } فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى {.
وفي المائدة } فصيام ثلاثة أيام متتابعات {.
 
مصحف عبدالله بن عباس
كتب فيه في البقرة } فلا جناح عليه ألا يطوف بهما {.
وفيه أيضاً } ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج {.
وفيها كذلك } فإن آمنوا بما آمنتم به فقد اهتدوا {.
وفيها } وإن عزموا السراح {.
وفيها } حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر {.
وفي آل عمران } وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به {.
وفيها } وشاورهم في بعض الأمر {.
وفيها } إنما ذلكم الشيطان يخوفكم أولياءه {.
وفي النساء } فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى {.
وفيها } فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات كانت لهم {.
وفي الحج } وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث {.
وفي النصر } إذا جاء فتح الله والنصر {.
 
 
(( مصحف عبدالله بن مسعود ))
كتب فيه في البقرة } اهبطوا مصر { بدون ألف ، و } إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل يقولان ربنا { و } فلا رفوث ولا فسوق ولا جدال في الحج { و } وتزودوا وخير الزاد التقوى { و } وأقيموا الحج والعمرة للبيت {.
وفي آل عمران } الحي القيام { و } وإن حقيقة تأويله إلا عند الله { و } ناداه الملائكة يا زكريا إن الله { و } يا مريم اقنتي لربك واركعي واسجدي في الساجدين { و } إذ قالت الملائكة إن الله ليبشرك {.
وفي النساء } إن الله لا يظلم مثقال نملة {.
وفي المائدة } إن تعذبهم فعبادك {.
وفي الأنعام } كالذي استهواه الشيطان { و } لقد تقطع ما بينكم {.
وفي الأعراف } قالوا ربنا إلا تغفر لنا وترحمنا {.
وفي الأنفال } ولا يحسب الذين كفروا سبقوا {.
وفي التوبة } قل أذن خير ورحمة لكم {.
وفي يونس } حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بكم {.
وفي هود } وآتاني رحمة من عنده وعميت عليكم { و } فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك {.
وفي الرعد } وسيعلم الكافرون لمن عقبى الدار {.
وفي النحل } الذين توفاهم الملائكة {.
وفي الإسراء } سبحت له السموات وسبحت له الأرض {.
وفي الكهف } لكن هو الله ربي {.
وفي مريم } ذلك عيسى ابن مريم قال الحق الذي فيه يمترون { و } تكاد السموات لتتصدع منه {.
وفي طه } قد نجيتكم {.
وفي الحج } أذن للذين قاتلوا بأنهم ظلموا {.
وفي النور } أنزلناها وفرضناها لكم {.
وفي الفرقان } وهو الذي أرسل الرياح مبشرات {.
وفي الشعراء } وأتبعوهم مشرقين {.
وفي النمل } فيمكث غير بعيد {.
وفي القصص } وعميت عليهم الأنباء {.
وفي السجدة } فلا تعلم نفس ما يخفى لهم {.
 وفي سبأ } يقذف بالحق وهو علام الغيوب {.
وفي يس } في شغل فاكهين { و } على الأرائك متكئين { و } سلاماً قولا من رب رحيم {.
وفي الزخرف } ما شهد خلقهم { و } وإنه عليم للساعة {.
وفي الشريعة } وإذا قيل لهم إن وعد الله حق وإن الساعة لا ريب فيها {.
وفي الحجرات } لتعارفوا وخياركم عند الله أتقاكم {.
 وفي القمر } خاشعة أبصارهم {.
وفي نوح } ولا يغوثاً ويعوقاً { بالتنوين فيهما.
 
نسخ المصاحف بعد عهد الخفاء الراشدين
وما أحدث فيها من نقط وشكل وتجزئة
بيَّنا في مبحث جمع القرآن الكريم في عهد عثمان رضي الله عنه أنه كتب المصاحف ووجهها إلى الأقطار الإسلامية ، وذكرنا أن هذه المصاحف كانت مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة ، وكانت مجردة من النقط والشكل لتكون محتملة لما تواترت قرآنيته من هذه الأحرف ، واستقر في العرضة الأخيرة ، ولم تنسخ تلاوته.
وذكرنا كذلك أن هذه المصاحف لما أرسلت إلى الآفاق الإسلامية قوبلت من أهلها بما هي جديرة به من الإقبال عليها ، ورضي الجميع عنها فنسخوا على غرارها مصاحف كثيرة كان لها ما لتلك من القدسية والتبجيل وكانت كلماتها خالية من النقط والشكل لما تقدم.
ظلت هذه المصاحف حقبة من الزمن هكذا حتى كثرت الفتوحات الإسلامية وانضوى تحت راية الإسلام كثير من بلاد الأعاجم ، فاختلط اللسان الأعجمي باللسان العربي ، وفشا اللحن على الألسنة كلها عربية وأعجمية وكادت العجمي تطغى على الفصحى ، وكان هؤلاء الأعاجم يعسر عليهم التمييز بين كلمات القرآن الكريم وحروفه ، لأنها ـ كما عرفت ـ غير منقوطة ولا مشكولة فخشي أمراء المؤمنين وولاتهم أن يفضي ذلك إلى اللحن في كتاب الله تعالى ، وتجريف كلمه عن مواضعها ـ فعلموا على تلافي ذلك ـ وإزالة أسبابه وأحدثوا من الوسائل ما يكفل صيانة الكتاب العزيز من اللحن، وحفظه من التحريف ، وهاك بيان هذه الوسائل.
 
النقط والشكل
للنقط معنيان:
الأول: ما يدل على ما يعرض للحرف من حركة ، أو سكون ، أو شد ، أو مد ، أو نحو ذلك ، ويسمي بعضهم هذا النقط نقط الأعراب.
المعنى الثاني: ما يدل على ذوات الحروف ، ويميز بين عجمها ومهملها ، كالنقطة الموضوعة على الباء من أسفلها ، وعلى الجيم كذلك ، والنقطتين الموضوعتين على التاء والثاء ، والنقطة التي على الجيم قد ميزتها عن الحاء وهكذا ويسمى بعضهم هذا النقط نقط الأعجام.
والشكل: معناه ما يدل على ما يعرض للحرف من حركة ، أو سكون ، أو شد ، أو مد ، أو نحو ذلك ، ويراد فه الضبط ، وعلى هذا يكون المعنى الأول للنقط مساوياً لمعنى الشكل والضبط.
وقد اختلف العلماء اختلافاً كثيراً في تعيين أول من احدث النقط بمعنييه ، وهل المحدث له بكلا معنييه واحد ، أو المحدث له بأحد معنييه غير المحدث له بالمعنى الآخر ، وأي المعنيين سابق على صاحبه.
والذي جنح إليه المحققون من العلماء أن المخترع الأول للنقط بمعناه الأول وهو نقط الأعراب أبو الأسود الدؤلي.
وذلك أن أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان كتب إلى زياد بن أبيه وكان زياد والياً على البصرة من قبل معاوية يطلب عبيد الله بن زياد فلما قدم عليه كلمة معاوية فوجده يلحن ، فرده إلى أبيه وكتب له كتاباً يلومه فيه على وقوع ابنه في الخطأ واللحن ، فبعث زياد إلى أبي الأسود وقال له إن هؤلاء الأعاجم قد أفسدوا لغة العرب ، فلو وضعت شيئاً يصلح الناس به كلامهم ويعربون به كلام الله تعالى ؟ فأبى ذلك أبو الأسود لأمر ما ، فأمر زياد رجلا أن يجلس في طريق أبي الأسود ، وقال له أذا مر بك أبو الأسود فاقرأ شيئاً من القرآن وتعمد اللحن فيه فلما مر به أبو الأسود قرأ قوله تعالى } أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ { بجر اللام من لفظ رسوله ، فاستعظم ذلك أبو الأسود وقال : عز وجه الله أن يتبرأ من رسوله ، ثم رجع إلى زياد وقال له : خذ المصحف وصبغاً يخالف لونه لون مداد المصحف فإذا فتحت شفي فأنقط واحدة فوق الحرف ، وإذا ضممتها فاجعل النقطة في أسفله فإذا اتبعت شيئاً من هذه الحركات غنة ـ أي تنويناً ـ فأنقط نقطتين فبدأ بأول المصحف حتى أتى على آخره. ويؤخذ من هذه القصة أن أول من اخترع النقط بمعناه الأول ـ وهو نقط الأعراب ـ المساوي للضبط والشكل هو أبو الأسود ، وعنه أخذ العلماء وتفننوا فيه ، وأدخلوا عليه كثيراً من التعديل كما سيأتي.
أما النقط بمعناه الثاني ـ وهو نقط الأعجام ـ فقد اختلف في مخترعه الأول كذلك ، وأرجح الآراء في ذلك أنه نصر بن عاصم ، ويحيى بن يعمر ، وذلك أنه لما كثير الداخلون في الإسلام من الأعاجم كثر التصحيف في لغة العرب ، وانتشر على كثير من الأفواه ، فخيف على القرآن أن تمتد إليه يد هذا العبث ، فأمر أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف ـ وكان والياً من قبله على العراق ـ أن يعمل جاهداً على إبعاد أسباب التحريف عن ساحة القرآن ، فندب الحجاج للقيام بهذه المهمة نصر بن عاصم ، ويحيي بن يعمر ، وكانا من علماء الإسلام المبرزين في اللغة العربية وأسرارها ، وفنون القراءات وتوجيهها فلم يجدا بداً من إجابة ما ندبهما إليه الحجاج ، لما في ذلك من المصلحة العامة ، والمحافظة على كتاب الله تعالى ، ثم أخذا في التنفيذ فوضعا هذا النوع من النقط ، لتمييز الحروف بعضها من بعض ليضمن بذلك سلامة القرآن من اللحن والتحريف.
وكان ها النقط بلون مداد المصحف حتى يتميز عن النقط الذي وضعه أبو الأسود الدؤلي.
ويؤخذ من هذه القصة وما قبلها أن النقط بمعناه الأول سابق في الوجود عليه بمعناه الثاني ، ضرورة تقدم زمن زياد على زمن الحجاج ، وأن المخترع له بمعناه الأول غير المخترع له بمعناه الثاني ، ثم في عصر الدولة العباسية ظهر إمام النحو الخليل بن أحمد البصري ، فأخذ نقط أبي الأسود وحور فيه ، وجعله على هذا النمط المستعمل الآن ، بجعل الضمة واواً صغيرة تكتب فوق الحرف ، والفتحة ألفاً صغيرة مبطوحة، والكسرة ياء.
ثم وضع علامة للشدة[17] رأس شين، وللسكون رأس خاء ، وعلامة للمد ، وأخرى للروم ، والأشمام، وهكذا.
ثم إن هذه العلامات دخل عليها شيء من الاختزال والتحسين حتى آلت إلى ما هي عليه الآن.
والخلاصة أن أول ما أحدث في المصحف هو نقط الأعراب الذي وضعه أبو الأسود الدؤلي ، ثم نقط الأعجام الذي وضعه[18] نصر بن عاصم ، ويحيى بن يعمر.
ثم إن الشكل الذي اخترعه الخليل بن أحمد ليكون عوضاً عن نقط الأعراب وقد يعكر على هذا ما رواه الداني عن يحيي بن كثير أنه قال : كان القرآن مجرداً في المصاحف ، فأول ما أحدثوا فيه النقط على الباء والتاء والثاء ، وقالوا لا بأس به هو نور له ، ثم أحدثوا فيه نقطاً عند منتهى الآي.
ثم أحدثوا فيه الفواتح والخواتم ، فإن هذا الأثر يفيد أسبقية نقط الأعجام على نقط الأعراب ، والجواب على ذلك أن معنى قولهم :
(( فأول ما أحدثوا فيه ... الخ ، أن النقط على الباء والتاء والثاء هو أو ما أحدث بالمصحف من هذا النوع وهو نقط الأعجام.
فتكون هذه الحروف الثلاثة هي أول ما نقط من الحروف المعجمة، ثم تمموا فنقطوا باقيها، ويتعين حمل هذا الأثر على هذا المعنى جمعاً بني هذا الأثر وبين ما استفيض استفاضة كادت تبلغ حد التواتر أن أول من أحدث النقط هو أبو الأسود ، وأن نقطه كان نقط إعراب.
ولقد كان لهذا العلم المجيد ـ وهو نقط المصحف وشكله ـ أحسن الأثر وأجل النفع في حفظ كيان الكتاب الحكيم ، ووقايته من كل تشويه ، وأما حكم النقط والشكل فسنتكم عليه إن شاء الله تعالى في (( مبحث ما يجب على كاتب المصحف وناشره)).

 تجزئة المصحف
كما كانت المصاحف العثمانية خالية من النقط والشكل ـ كما سبق ـ كانت خالية من التجزئة أيضاً ، ثم قامت طائفة فقسمت القرآن ثلاثين قسماً ، وأطلقت على كل قسم منها اسم (( الجزء )) وقسمت هذا الجزء إلى حزبين ، وقسمت الحزب إلى أربعة أجزاء ، وأطلقت على كل جزء منها اسم (( الربع )) وكل ذلك معروف لا يكاد يجهله أحد.
ومن كتَّاب المصاحف في الصدر الأول من كان يضع ثلاث نقط على آخر كل فاصلة من فواصل الآيات ، إعلاماً بانقضاء الآية ، ويكتب لفظ       (( خمس )) عند انقضاء خمس آيات من السورة ، ويكتب لفظ (( عشر )) عند انقضاء خمس آيات منها ، فإذا انقضى خمس أخرى أعاد كتابة لفظ   (( خمس )) فإذا صارت عشراً أعاد كتابة لفظ عشر ، ولا يزال هكذا إلى آخر السورة ، ولذلك قال قتادة : بدءوا فنقطوا ثم خمسوا فعشروا (( ولعلك فهمت معنى خمسوا وعشروا )) ومنهم من كان يضع مكان لفظ خمس رأس الخاء ، ومكان لفظ عشر رأس العين اختصاراً.
ومنهم من كان يكتب اسم السورة ، وكونها مكية أو مدنية ، ويكتب عدد آيها في آخرها ، وقد اختلف العلماء في ذلك كله ، فأجازه قوم بكراهة وآخرون بلا كراهة ، وهذا هو الراجح لما في ذلك من تنشيط القارئ وحفز همته على الإقبال على القراءة والله تعالى أعلم.
 
ما يجب على كاتب المصحف وناشره
تمهيد
هل يكتب المصحف الشريف حسب القواعد العامة للإملاء ، أو يكتب حسب قواعد الرسم العثماني ؟؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: يجوز كتابة المصحف الشريف حسب القواعد العامة للإملاء ولا يجب التزام الرسم العثماني في كتابته، وممن أيد هذا القول وانتصر له ابن خلدون والقاضي أبو بكر الباقلاني في آخرين.
المذهب الثاني: تجب كتابة المصحف لعامة الناس على القواعد الإملائية المعروفة لهم ، ولا تجوز كتابته لهم بالرسم العثماني ، وإنما يكتب بالرسم العثماني للخاصة من الناس.
وممن جمح إلى هذا المذهب الإمام بدر الدين الزركشي في كتابه البرهان ، والإمام شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام.
المذهب الثالث: يجب التزام الرسم العثماني في كتابة المصحف الشريف ، وإلى هذا ذهب جماهير العلماء من السلف والخلف.
أدلة المذهب الأول: استدل أصحاب هذا المذهب بثلاثة أدلة:
الأول: أن هذه الخطوط والرسوم ما هي إلا علامات وأمارات ، فكل رسم يدل على الكلمة ، ويفيد وجهة قراءتها فهو رسم صحيح ، موافق للصواب.
الثاني: أن كتابة المصحف على الرسم العثماني قد توقع الناس في الحيرة والالتباس والمشقة والحرج ، ولا تمكنهم من القراءة الصحيحة السليمة ، فيحرمون الثواب الموعود به على تلاوة القرآن الكريم ، وربما يتعرضون للعقوبة والإثم إذا قرأوا قراءة بعيدة عن جادة الصواب ـ فتيسيراً على الناس في قراءة القرآن ، ورفعاً للمشقة والحرج عنهم ، وتمكيناً لهم من القراءة الصحيحة السليمة حتى يحصلوا على الأجر الموعود به على قراءة القرآن ـ يكتب المصحف حسب قواعد الإملاء الحديثة.
الثالث: ليس في الكتاب العزيز ، ولا في السنة المطهرة ، ولا في إجماع الأمة ، ولا في قياس شرعي ـ ليس في شيء من ذلك ما يدل على وجوب كتابة المصحف برسم معين ، وكيفية مخصوصة ، ولم يرو عن الرسول الأعظم أنه أمر أحداً من كتاب الوحي حين كتابة الآيات القرآنية أن يكتبها برسم خاص ، ولا نهى أحداً أن يكتبها بهيئة معينة.
والالتباس والمشقة والحرج ، ولا تمكنهم من القراءة الصحيحة السليمة ، فيحرمون الثواب الموعود به على تلاوة القرآن الكريم ، وربما يتعرضون للعقوبة والإثم إذا قرأوا قراءة بعيدة عن جادة الصواب ـ فتيسيراً على الناس في قراءة القرآن ، ورفعاً للمشقة والحرج عنهم ، وتمكيناً لهم من القراءة الصحيحة السليمة حتى يحصلوا على الأجر الموعود به قلى قراءة القرآن ـ يكتب المصحف حسب قواعد الإملاء الحديثة.
الثالث: ليس في الكتاب العزيز ، ولا في السنة المطهرة ، ولا في إجماع الأمة ، ولا في قياس شرعي ـ ليس في شيء من ذلك ما يدل على وجوب كتابة المصحف برسم معين ، وكيفية مخصوصة ، ولم يرو عن الرسول الأعظم أنه أمر أحداً من كتاب الوحي حين كتابة الآيات القرآنية أن يكتبها برسم خاص ، ولا نهي أحداً أن يكتبها بهيئة معينة.
أدلة المذهب الثاني: استدل أصحاب هذا المذهب بأن كتابة المصحف حسب قواعد الرسم العثماني توقع الناس لا محالة في العسر والمشقة ، وتفضي بهم إلى اللحن المنكر ، والخطأ الفاحش ، والتحريف المشين ، والتغيير في كتاب الله تعالى بالزيادة فيه ، والنقص منه.
قال أصحاب هذا المذهب : ومع هذا يجب الاحتفاظ بالرسم العثماني ، لأنه من آثار سلفنا الصالح ، فلا نتغاضى عنه بالكلية مراعاة لجهل الجهلاء ، بل يبغى في أيدي العارفين الذين لا يخلو زمان من وجودهم ، وتشرف الزمان بهم.
قال صاحب التبيان : أما كتابة المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء فقد جرى عليه أهل المشرق بناء على كونها أبعد عن اللبس ، وتحاماه أهل المغرب بناء على قول الإمام مالك ، وقد سئل هل يكتب المصحف على ما أحدث الناس من الهجاء ؟ فقال : لا ـ إلا على الكتبة الأولى.
قال الإمام الزركشي في البرهان : قلت : وهذا كان في الصدر الأول والعلم غض حي ، وأما الآن فقد يخشى الالتباس ، ولهذا قال الإمام الشيخ عز الدين بن عبد السلام : لا تجوز كتابة المصحف الآن على الرسم الأول باصطلاح الأئمة ، لئلا يوقع في تغيير من الجهال . ثم قال في البرهان : ولكن لا ينبغي إجراء هذا على إطلاقه لئلا يؤدي إلى درس العلم ، وشيء قد أحكمته القدماء لا يترك مراعاة لجهل الجاهلين ، ولن تخلوا الأمة من قائم الله بحجة . انتهى.
واستند أصاحب هذين المذهبين أيضاً في تعزيز مذهبيهما إلى أن الكتابة لم تغز ربوع الجزيرة العربية إلا قبل الرسالة المحمدية بزمن يسير ، وكانت منحصرة في نفر قليل من أهل مكة من قريش خاصة.
فكانت الكتابة حين نزول القرآن ووقت كتابته في العهود الثلاثة المتقدمة في دور الطفولة والتكوين والتدرج ، لم تبلغ أشدها ، ولم تستكمل نموها ، وكان الكتاب حينئذ لم يحذقوا الكتابة ، ولم ينضجوا فيها ـ بل تقاصروا عن جودتها وإحكامها .
وإذا كان القرآن الكريم قد كتب في هذا العهد ـ عهد طفولة الكتابة وضعفها ـ على يد هؤلاء البدائيين السذج في الكتابة الذين لم يحذقوها ولم يمهروا فيها فلا ينبغي لنا أن نقتدي بهم ، ونقتفي آثارهم في كتابة المصحف بل علينا أن نكتبه حسب القواعد المحدثة للكتابة وقد بلغت القمة ووصلت إلى الأوج في الرقي والتقدم.
قال الإمام عبد الرحمن بن خلدون في المقدمة:
(( فكان الخط العربي لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة ، ولا إلى التوسط : لمكان العرب من البداوة والتوحش وبعدهم عن الصنائع ، وانظر ما وقع من أجل ذلك في رسمهم المصحف حيث رسمه الصاحبة بخطوطهم ، وكانت غير مستحكمة في الإجادة . فخالف الكير من رسمهم ما اقتضته رسوم صياغة الخط عند أهلها . ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها تبركاً بما رسمه أصحاب رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ، وخير الخلق من بعده ، المتلقون لوحيه من كتاب الله تعالى وكلامه ، كما يقتفي لهذا العهد خط ولى تبركاً ويتبع رسمه صواباً أو خطأ . وأين نسبة ذلك من الصحابة فيما كتبوه فاتُّبع ذلك ، ونبه العلماء بالرسم على مواضعه )).
(( ولا تلتفتن في ذلك إلى ما يزعمه بعض المغفلين من أنهم كانوا محكمين لصناعة الخط ، وأن ما يتخيل من مخالفة خطوطهم لأصول الرسم ليس كما يتخيل ، بل لكل وجهة ، يقولون في زيادة الألف في (( لا أذبحنه )) إنه تنبيه على أن الذبح لم يقع.
وفي مثل زيادة الياء (( بأييد )) إنه تنبيه على كمال القدرة الربانية ، وأمثال ذلك مما لا أصل له إلا التحكم المحض ، وما حملهم على ذلك إلا اعتقادهم أن في ذلك تنزيهاً للصحابة عن توهم النقص في قلة إجادة الخط ، وحسبوا أن الخط كمال فنزهوهم عن نقصه ، ونسبوا إليهم الكمال بإجادته ، وطلبوا تعليل ما خالف الإجادة من رسمه (( وليس ذلك بصحيح ))، انتهى هذا.
وقد مال إلى هذا المذهب من علماء هذا القرن المغفور له العلامة الشيخ حسين وإلى حيث قال في (( كتاب الإملاء )) لو كتبنا القرآن بخطنا المستعمل الآن لخرجنا من العهدة ، وقمنا بالأمر أحسن القيام ، كمن كلف شيئاً ففعل خيراً منه ، لأنك قد علمت أن الخط الحاضر أحسن مما كان عليه من الطريقة القديمة التي كانت (( في زمن الصحابة رضي الله عنهم )) انتهى.
ومال إلى هذا المذهب أيضاً الأستاذ العلامة الكاتب الكبير أحمد حسن الزيات ، قال من حديث طويل كتبه في مجلة الرسالة (( ولو كان هذا الرسم ـ وهو الرسم القديم الذي كتبت عليه المصاحف العثمانية ـ موحى به من الله تعالى لآمنا به ، وحرصنا عليه ، ولكنه من عمل قوم كانوا قريب عهد بالخط فوقع فيه الخطأ والنقص والأشكال ، والغرض من كتابة القرآن أن نقرأه صحيحاً ، لنحفظه صحيحاً ، فكيف نكتبه بالخطأ لنقرأه بالصواب ، وما الحكمة في أن نقيد كتاب الله تعالى بخط لا يكتب به اليوم أي كتاب ؟ انتهى.
أدلة المذهب الثالث:
استدل أصحاب هذا المذهب بأن النبي  صلى الله عليه وسلم  كان له كتَّاب يكتبون الوحي ، وقد كتبوا القرآن كله بهذا الرسم ، وأقرهم الرسول على كتابته ، وانتقل الرسول  صلى الله عليه وسلم  إلى الرفيق الأعلى وقد كتب القرآن كله على هذه الكيفية المخصوصة لم يحدث فيها تغيير ولا تبديل.
ثم تولى الخلافة بعده أبو بكر الصديق رضي الله عنه فأمر بكتابة القرآن كله في الصحف على هذه الهيئة ، ثم جاء عثمان رضي الله عنه فنسخت المصاحف العثمانية بأمره من صحف أبي بكر على هذا الرسم أيضاً ، ووزع عثمان هذه المصاحف علا الأمصار لتكون إماماً للمسلمين ، وأقر أصحاب رسول الله  صلى الله عليه وسلم  عمل أبي بكر وعثمان في المصاحف ، ولم ينكر أحد منهم عليهما شيئاً ، بل ظفر كل منهما بإقرار جميع الصحابة لعملهما ، واستمر المصحف مكتوباً بهذا الرسم في عهد بقية الصحابة والتابعين وتابعي التابعين والأئمة المجتهدين في عصورهم المختلفة ولم يثبت أن أحداً من هؤلاء جميعاً حدثته نفسه بتغيير هجاء المصاحف ورسمها الذي كتبت عليه أولا وكتابتها برسم آخر يساير الرسم المحدث الذي حدث في عهد ازدهار التأليف في البصرة والكوفة ، بل ظل الرسم القديم قائماً مستقلا بنفسه عن التأثير بالرسم الحادث ، نعم ظل الرسم القديم منظوراً عليه بعين التقديس والإكبار في سائر العصور المختلفة ، والأزمنة المتفاوتة مع أنه وجد في هذه العصور المختلفة أناس يقرؤون القرآن ولا يحفظونه ، وهم في الوقت نفسه لا يعرفون من الرسم إلا هذا الرسم المحدث الذي وضعت قواعده في عصر التأليف والتدوين ، وشاع استعمال هذه القواعد بين الناس في كتابة غير القرآن.
ولم يكن وجود هذا الصنف من الناس مما يبعث الأمة على تغيير رسم المصحف بما تقضي به هذه القواعد الجديدة.
وإذا ثبت أن الرسم القديم الذي كتبت عليه المصاحف قد حظي بإقرار الرسول  صلى الله عليه وسلم  له ، وإجماع الصحابة عليه ، ورضا أئمة الصدر الأول ـ وهم خير هذه الأمة عنه ، واتفاق التابعين وأتباعهم والأئمة المجتهدين عليه ، فلا يجوز العدول عنه إلى غيره ، وخاصة وأنه أحد أركان القراءة الصحيحة ، وهناك نصوص الأئمة من صدور هذه الأمة :
روى الإمام السخاوي أن مالك بن أنس إمام دار الهجرة سائل : أرأيت من استكتب مصحفاً ، أرأيت أن يكتب على ما استحدثه الناس من الهجاء اليوم ؟ فقال : لا أرى ذلك ولكن يكتب على الكتبة الأولى.
قال البخاري : والذي ذهب إليه مالك هو الحق إذ فيه بقاء الحالة الأولى، إلى أن تعلمها الطبقة الأخرى بعد الأخرى، ولا شك أن هذا هو الأحرى، إذ في خلاف ذلك تجهيل الناس بأولية ما في الطبقة الأولى، انتهى.
وقال الإمام أبو عمرو الداني : لا مخالف لمالك من علماء هذه الأمة.
وقال الداني أيضاً : سئل مالك عن الحروف في القرآن مثل الواو، والياء ، والألف ، أترى أن يغير من المصحف إذا وجد فيه شيء من ذلك ؟ قال : لا ، قال أبو عمرو : يعني الواو والياء والألف الزائدات في الرسم، المعدومات في اللفظ ، نحو } لا اذبحنه { و } بأييد { و } أولو{ وهكذا.
وقال الإمام أحمد بن حنبل : يحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أو ألف أو ياء ، أو غير ذلك.
وقال صاحب المدخل : ويتعين على كاتب المصحف أن يترك ما أحدثه بعض الناس في هذا الزمان من نسخ المصحف على غير المرسوم الذي اجتمعت عليه الأمة ، انتهى.
وقال النيسابوري : وقال جماعة من الأئمة : إن الواجب على القراء والعلماء وأهل الكتابة أن يتبعوا هذا الرسم في خط المصحف فإنه رسم زيد بن ثابت وكان أمين رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ، وكاتب وحيه ، انتهى . وقال الإمام البيهقي في شعب الإيمان : من كتب مصحفاً ينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف ، ولا يخالفهم فيه ، ولا يغير مما كتبوه شيئاً ، فإنهم كانوا أكير علماً ، وأصدق قلباً ولساناً ، وأعظم أمانة منا ، فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكاً عليهم ، انتهى.
والمذهب الذي تطمئن إليه النفس ، وينشرح له الصدر ، ويستجيب له الضمير هو المذهب الثالث لأمور:
الأول : أن ما أورده أصحاب هذا المذهب من نصوص علماء الإسلام ظاهر ـ بل قاطع في الدلالة على وجوب التزام الرسم العثماني في كتابة المصحاف.
الثاني: أن قواعد الهجاء والإملاء الحديثة عرضة للتغيير والتنقيح في كل عصر وفي كل جيل ـ فلو أخضعنا رسم القرآن لهذه القواعد لأصبح القرآن عرضة للتغيير والتبديل ، وحيطتنا للكتاب العزيز ، وتقديسنا له يضطرنا إلى أن نجعله بمنأ من هذه التغييرات في رسمه وكتابته.
الثالث: أن تغيير الرسم العثماني ربما يكون مدعاة ـ من قريب أو من بعيد ـ إلى التغيير في جوهر الألفاظ والكلمات القرآنية ، ولا شك أن في ذلك القضاء على أصل الدين ـ وأساس الشريعة ـ وسد الذرائع ـ مهما كانت بعيدة ـ أصل من أصول الشريعة الإسلامية التي تبنى عليها الأحكام.
وما كان موقف الأئمة من الرسم العثماني إلا بدافع من هذا الأصل العظيم مبالغة في المحافظة على كيان ألفاظ القرآن وصيانتها من تطرق التحريف إليها والعبث فيها.
الرابع: أن في الرسم العثماني خصائص كثيرة ، ومزايا عظيمة ، وقد تكفل علماء الرسم ببيانها فارجع إليها إن شئت.
ومن طريف ما يذكر في هذا الموضوع أن محكمة استئناف مصر حكمت بمصادرة مصحف ، وعللت حكمها بأن هذا المصحف مكتوب حسب قواعد الإملاء ، ومخالف للرسم العثماني الذي يجب أن تكتب المصاحف كلها حسب قواعده ، وكان من حيثيات حكمها أيضاً أن الأمم الراقية تحافظ على آثار سلفها ، وتقدمها ، وتجعلها في المحل الأول من العناية والمحافظة ـ ومن ذلك أن الشعب الإنجليزي لم يسمح لطابع ما ، ولا لناشر كائناً من كان ـ أن يكتب أشعار (( شكسبير )) شاعرهم العظيم بغير لغة العصر الذي عاش فيه ، مع تغير كثير من كلماته وطرق إملائه عن المعهود المتداول في عصر الشاعر المذكور ، يسمح الإنجليز بهذا لأن شعر الشاعر المذكور أصبح في نظرهم مقدساً لا يجوز المساس به حتى في طريقة إملائه ، أفلا يكون الأجدر بالمسلمين ـ وهم يقدسون كتابهم أشد من تقديس الإنجليز لشعر هذا الشاعر ـ أن يحافظوا على رسمه وكتابته . انتهى.
وأما ما يتعلل به أصاحب المذهبين الأولين من أن كتابة المصاحف على الرسم العثماني توقع القارئين في حيرة وارتباك ... الخ ما قالوه ، فمردود بأن المصاحف في هذا العصر ـ خصوصاً المصحف الحكومي ـ قد ضبطت بالشكل التام ، ووضعت علامات مخصوصة تدل على الحروف المحذوفة التي ينطق بها وألف الناس القراءة في هذه المصاحف ، ومرنوا عليها من غير حرج ولا مشقة.
ومن قرأ ـ بإمعان وروية ـ اصطلاحات رسم المصحف وضبطه الموضوعة في ذيل المصحف الأميري تحت عنوان (( التعريف بالمصحف الشريف )) يستطيع أن يقرأ في المصحف بغاية اليسر والسهولة.
وبناء على هذا يجب على كاتب المصحف وطابعه وناشره: أن يتحرى كل منهم كتابته على قواعد الرسم العثماني ولا يخل بشيء منها ، ولا يغير فيها شيئاً ما بزيادة أو نقص ، أو إثبات أو حذف ، حفظاً لهذا التراث الخالد ، واقتداء بالصحابة والتابعين ، والأئمة المجتهدين ، وأعلام الإسلام في سائر الأعصار والأمصار ، لا فرق في ذلك بين المصاحف الكاملة ، والصحف الصغيرة (( الأجزاء )) التي يتعلم فيها الصغار ، ومن في حكمهم من الكبار ، ليتمرنوا على قواعد الرسم العثماني منذ طفولتهم ، ونعومة أظفارهم ، وعلى معلمي القرآن ـ حيثما كانوا ـ ألا يدخروا وسعاً في تعليم أبنائهم تلك القواعد من الصغر ، حتى يشبوا وقد وقفوا عليها ، وأحاطوا بها خبراً ، وأصبحت القراءة في المصحف ميسورة عليهم وسجية لهم.
ويجب على كاتب المصحف أيضاً أن يرسم الكلمات رسماً يوافق الرواية التي يكتب المصحف عليها ولو احتمالا ، فيرسم } وسارعوا إلى مغفرة من ربكم { بإثبات الواو قبل السين إذا كان يكتب المصحف على رواية حفص أو حمزة مثلا ، ويرسم } ملك يوم الدين { على رواية مثل حفص بحذف الألف لأن رسمه كذلك يوافق رواية حفص احتمالا ، فيمتنع رسم الكلمات بما لا يوافق الرواية لا صراحة ولا احتمالا ـ فتأمل.
ويسحب من كاتب المصحف أن يجتهد في تحسين كتابته ـ وإيضاحها ـ وتبيين حروفه وتجويدها . وأن يكتبه في حجم كبير احتراماً للقرآن الكريم ، وتعظيماً لشأنه ، ولذلك ورد أن عمر بن الخطاب وجد من رجل مصحفاً كتبه بخط دقيق ـ فكره ذلك عمر ، وضرب الرجل وقال له (( عظموا كتاب الله تعالى )).
وتجوز كتابة المصحف بالذهب : وقد استحسن هذ1 الإمام الغزالي.
ولكن ورد عن ابن عباس وأبي ذر وأبي الدرداء أنهم كرهوا ذلك ، وقد مر على ابن مسعود رجل يحمل مصحفاً قد زين بالذهب فقال ابن مسعود (( إن أحسن ما يزين به المصحف أن يتلى حق تلاوته ـ وأن يعمل بما فيه )).
ويجوز نقط المصحف وشكله : وقد كرهه جماعة من السف ـ وروى الإمام مالك أنه أباح نقط المصحف وشكله في مصاحف الصغار ، ومن في حكمهم من الكبار ، ومنع ذلك في الأمهات ، أي المصاحف الكاملة.
وعن الحسن وابن سيرين أنهما قالا : لا بأس بنقط المصحف.
وعن ربيعة بن عبد الرحمن أنه قال : لا بأس بشكل المصحف.
وقال الإمام النووي من كبار علماء الشافعية : نقط المصحف وشكله مستحب ، لأن ذلك صيانة له من اللحن والتحريف.
وقال الإمام الداني في كتاب النقط : (( والناس في جميع أمصار المسلمين من لدن التابعين إلى وقتنا هذا على الترخص في ذلك أي في نقط المصحف وشكله ـ في الأمهات وغيرها ، ولا يرون بأساً برسم فواتح السور ، وعدد آيها . ورسم الخموس والعشور في مواضعها والخطأ مرتفع عن إجماعهم . انتهى.
والذي أراه أن نقط المصحف وشكله بالشكل التام وضبطه ضبطاً كاملاً ـ كل ذلك واجب متحتم في هذا الزمن ، لتيسير قراءة القرآن على سائر الناس ، والحرص على صيانته من اللحن والتحريف.
وتجوز كتابة أسماء السور في ابتداء كل سورة وعدد آيها ، وبيان كون السورة مكية أو مدنية ، والأحسن عدم التعرض لذكر المستثنيات من الآيات لعدم الاتفاق عليها.
ويجوز أيضاً كتابة علامات الأجزاء ، والأرباع والسجدات ، والسكنات ، وعلامات الوقوف ، وأرقام الآيات ، وعلامات فواتح السور ، وخواتيمها ، وقد كره ذلك كله جماعة من السلف لقول ابن مسعود (( جردوا القرآن ولا تخلطوا به ما ليس منه )).
والذي جنح إليه جماهير العلماء من السلف والخلف أن ذلك كله لا بأس به كما تقدم ذلك عن الداني ، ويجوز تحلية المصحف بالفضة إكراماً له على الصحيح ، فقد أخرج البيهقي عن الوليد بن مسلم قال : سألت مالكاً عن تفضيض المصاحف فقال : حدثني أبي عن جدي أنهم جمعوا القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه ، وأنهم فضضوا المصاحف على هذا ونحوه ، وأما بالذهب فالأصح جوازه للمرأة دون الرجل ، وخص بعضهم الجواز بنفس المصحف دون غلافه المنفصل عنه ، والأطهر التسوية . انتهى من الإتقان للسيوطي.
 
المصاحف في دور الطباعة
لما أنشئت المطابع في مصر وغيرها من البلاد الشرقية كان جل عنايتها بالمصحف الكريم ، وكانت تتسابق في إبرازه في أبهى صورة ، وأروع منظر، وأبدع تنسيق ، وذلك على أن أشكال شتى ، وألوان متنوعة ، وحجوم مختلفة ، غير أن هذه المطابع ـ على كثرتها وعنايتها الفائقة بطبع المصحف ـ لم تراع في طبعه أن يكون على قواعد الرسم العثماني التي كتب عليها في عهد عثمان رضي الله عنه ، وفي عهد بقية الصحابة والتابعين ، والأئمة المجتهدين ، بل طبعته مطابقة لقواعد الإملاء المحدثة ـ اللهم إلا في النزر اليسير من الكلمات كتبته على مقتضى الرسم العثماني.
ظلت المصاحف هكذا زمناً غير قصير حتى قبض الله لها علماً من أعلام القرآن ، وجهبذاً من جهابذته ، وهو العلامة المحقق المغفور له الشيخ رضوان بن محمد الشهير بالمخللاتي ؟؟ صاحب المؤلفات المفيدة ، والمصنفات الممتعة فكتب مصحفاً جليل الشأن ، عظيم الخطر ، عنى فيه بكتابة الكلمات القرآنية على قوانين الرسم العثماني ، كما عني فيه ببيان عدد آي كل سورة في أولها عند علماء العدد المشهورين على اختلاف مذاهبهم ، واضعاً على الفاصلة المختلف فيها اسم من بعدها ، كذلك بين أماكن الوقوف ، ووضع على كل موضع منها العلامة الدالة على نوع الوقف ، وبعد الاستقراء والتتبع للوقوف التي وضعها تبين أن الوقوف عنده ستة أقسام : التام ، الكافي ، الحسن ، الصالح ، الجائز ، المفهوم.
وقد أشار إلى التاء ، وإلى الكافي بالكاف ، وإلى الحسن بالحاء ، وإلى الصالح بالصاد ، وإلى الجائز بالجيم ، وإلى المفهوم بالميم.
وقد صدر هذا المصحف بمقدمة جليلة أبان فيها أن هذا المصحف حرر رسمه وضبطه على ما في كتاب المقنع للإمام الداني ، وكتاب التنزيل لأبي داود ، ولخص فيها تاريخ كتابة القرآن في العهد النبوي ، وجمعه في عهدي أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما ، كما لخص فيها مباحث الرسم والضبط ، وبين فيها علماء العدد المشهورين ، وعرف فيها معنى السورة والآية ، كل ذلك في عبارة وجيزة مفيدة ، وتركيب سهل بديع.
وقد طبع هذا المصحف في المطبعة البهية في القاهرة لصاحبها الشيخ محمد أبي زيد ـ سنة ثمان وثلاثمائة وألف هجرية.
وكان هذا المصحف هو المتداول بين أهل العلم وعلماء القراءات ، المعول عليه عندهم ، المقدم على سائر المصاحف لما اشتمل عليه من المزايا الآنفة الذكر ، وكان يطلق عليه (( مصحف المخلاتي )) بيد أنه لم يبرز في صورة حسنة تروق الناظر، وتنشط القارئ لرداءة ورقة، وسوء طبعه، إذ أنه طبع في مطبعة حجرية.
ثم كان أن وجهت مشيخة الأزهر عنايتها إلى المصحف، فأمرت بتكوين لجنة من أساطين العلم، ونوابغ الأدب من المغفور له العلامة الشيخ محمد على خلف الحسيني الشهير بالحداد شيخ المقارئ المصرية الأسبق والمرحومين الأساتذة ، حفني ناصف ، ومصطفى عناني وأحمد الأسكندري . كونت هذه اللجنة للنظر في المصحف ، في رسمه، وضبطه، وفي ما يجب أن يكون عليه فاضطلعت اللجنة بهذه المهمة الشاقة ، وقامت ـ أحسن جزاءها ـ بما أسند إليها على أتم وجه وأكمله، فكتبت القرآن كله على حسب قواعد الرسم العثماني وضبطته على ما يوافق رواية حفص بن سليمان الكوفي أحد راويي قراءة عاصم بن أبي النجود، وبينت في ترجمة كل سورة عدد آيها على مذهب حفص المذكور وأنها مكية أو مدنية، وأنها أنزلت بعد سورة كذا ، ووضعت لكل آية رقمها الخاص بها كما وضعت علامات للوقوف ، والأجزاء ، والأحزاب ، والأرباع ، والسجدات ، والسكتات.
ثم قسمت الوقوف إلى ستة أقسام:
الأول : ما يلزم الوقف عليه ولا يصح وصله بما بعده ، ووضعت له علامة وهي الميم المفردة هكذا (( م )).
الثاني: ما يصح الوقوف عليه والابتداء بما بعده كما يصح وصله بما بعده غير أن الوقف عليه أحسن من وصله بما بعده ، ووضعت له هذه العلامة (( قلى )) وهي كلمة منحوتة ، وأصلها : الوقف أولى.
الثالث: كالثاني غير أن وصله بما بعده أرجح من الوقف عليه ووضعت له هذه العلامة (( صلى )) وهي كلمة منحوتة ، وأصلها : الوصل أولى.
الرابع: ما يجوز فيه الوقف والوصل على السواء من غير ترجيح أحدهما على الآخر ، ووضعت له هذه العلامة (( ج )).
الخامس: ما لا يصح الوقف عليه والابتداء بما بعده ، فإذا وقف عليه لانقطاع نفس ، أو استراحة ، أو نحو ذلك تعين عليه أن يرجع فيصله بما بعده ، ووضعت له هذه العلامة (( لا )).
السادس: وقف المعانقة ، وهو أن يكون هناك موضعان يصح الوقف على كل منهما ولكن إذا وقف على أحدهما امتنع الوقف على الآخر ، ووضعت لهما هاتين العلامتين هكذا ... ... ، ومثلت لكل قسم من الأقسام الستة.
وقد ذكرت هذه اللجنة الموقرة في ذيل المصحف تحت عنوان (( تعريف بهذا المصحف الشريف )) النهج الذي سارت عليه في كتابة المصحف ، في رسمه وضبطه ، وعد آياته ، وبيان أجزائه وأحزابه ، وأرباعه ، وبيان مكيه ومدنية وبيان وقوفه ، وعلاماتها ، وبيان سجداته وموضعها ، وعلاماتها ، وبيان سكتاته ، ومواضعها ، وعلاماتها.
وإننا ـ مع تقديرنا لهذه اللجنة ، وتقديسنا لعملها ، واعتقادنا أنها بذلت من المجهود في كتابة هذا المصحف وتصحيحه ، وإبرازه في هذه الصورة الشيقة الكريمة ما تحمد عليه ويعد من آثارها الخالدة ، وأعمالها الجليلة المجيدة ـ قد لاحظنا على طبعة المصحف الأولى بعض هنات في الرسم ، والضبط ، والوقوف وترجمات السور.
ولما نفذت نسخ هذه الطبعة ت الأولى ـ من المصحف الشريف ، وقررت إدارة دار الكتب المصرية إعادة طبع المصحف كتب السيد المدير العام لدار الكتب لفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر يرغب في تكوين لجنة من علماء القراءات والعربية لمراجعة المصحف الشريف بمناسبة الشروع في إعادة طبعه ، فألف فضيلة الأستاذ الأكبر لجنة علمية تحت إشراف مشيخة الأزهر مكونة مني ، ومن أصحاب الفضيلة الأساتذة الشيخ محمد علي النجار الأستاذ في كلية اللغة العربية بالأزهر ، والمغفور له الشيخ علي محمد الضباع شيخ المقارئ المصرية السابق ، والمغفور له الشيخ عبد الحليم بسيوني المراقب بالأزهر سابقاً فقمنا بمراجعة المصحف على أمهات كتب القراءات، والرسم، والضبط، والتفسير، وعلوم القرآن، وعملنا ـ جهد الطاقة ـ على إصلاح ما لوحظ على الطبعة الأولى من مآخذ ، وتلافي ما وقع فيها من هنات، واستدركنا في ذلك في الطبعة الثانية، وما تبعها من طبعات.
 
أول ما نزل وآخر ما نزل من القرآن الكريم
أول ما نزل : ورد أقوال كثيرة ، والصحيح منها أن أول ما نزل من القرآن على الإطلاق صدر سورة العلق ، وهو قوله تعالى } اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ{1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ{2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ{3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ{4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ{5} {.
والدليل على ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، أنها قالت : أول ما بدئ به رسول الله  صلى الله عليه وسلم  من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء ، فيتحنث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد ـ قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها ، حتى جاء الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك ، فقال : اقرأ. قلت : ما أنا بقارئ ـ فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم ارسلين ، فقال : اقرأ ، قلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال : أقرأ ، قلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال : } اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ{1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ{2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ{3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ{4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ{5} { ، فرجع بها إلى خديجة يرجف فؤاده ـ إلى آخر الحديث.
وصحح الحاكم في مستدكره ، والبيهقي في دلائله ، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : (( أول سورة نزلت من القرآن } اقرأ باسم ربك { .
وصحح الطبراني في الكبير بسنده عن أبي رجاء العطاردي قال : كان أبو موسى يقرئنا فيجلسنا حلقاً وعليه ثوبان أبيضان ، فإذا تلا هذه السورة } اقرأ باسم ربك الذي خلق { قال : هذه أول سورة نزلت على محمد  صلى الله عليه وسلم  .
وقد كان نزول هذه الآيات ليلة السابع عشر من رمضان للسنة الحادية والأربعين من ميلاده  صلى الله عليه وسلم  ، وهذه الليلة التي ابتدأ فيها نزول القرآن هي ليلة القدر التي قال الله تعالى فيها } إنا أنزلناه في ليلة القدر { الخ السورة ، وقال فيها في صدر سورة الدخان } إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين { الآيات ، ولا شك أن وهذه الليلة كانت في شهر رمضان لقوله تعالى } شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان { وقد ظن بعض الناس أن الليلة المباركة المذكورة في أول سورة الدخان هي ليلة النصف من شعبان ، وهذا ظن باطل يرده صريح القرآن ـ لأن هذه الآية ـ } إنا أنزلناه في ليلة مباركة { تدل على أن مبدأ نزول القرآن كان فيها وقد صرح الله تعالى في سورة القدر بأن مبدأ نزول القرآن كان في ليلة القدر ، فتكون الليلة المباركة هي ليلة القدر بعينها ، وهي إحدى ليالي رمضان ، لأن نزول القرآن كان فيه ، كما هو صريح قوله تعالى } شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن { وعلى هذا يكون ادعاء أن الليلة المباركة هي ليلة النصف من شعبان ادعاء باطلا يناقض صريح القرآن الكريم.
آخر ما نزل : ورد فيه أقوال كثيرة أيضاً ، والصحيح منها أن آخر ما نزل من القرآن على الإطلاق قوله تعالى في سورة البقرة } واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفي كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون { والدليل على ذلك ما أخرجه النسائي من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : آخر القرآن نزولا } واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله { وكذلك أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال : آخر ما نزل من القرآن كله } واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله { الآية وعاش النبي  صلى الله عليه وسلم  بعد نزولها تسع ليال ، ثم مات لليلتين خلتا من ربيع الأول ، وكان ذلك في السنة العاشرة من الهجرة والسنة الثالثة والستين من ميلاده  صلى الله عليه وسلم .
وعلى هذا تكون المدة التي نزل فيها القرآن الكريم اثنتين وعشرين سنة وخمسة أشهر تقريباً.
 
المكي والمدني من القرآن الكريم
من المعلوم أنه  صلى الله عليه وسلم  مكث في مكة ـ بعد أن شرفه الله تعالى بالرسالة ـ ثلاث عشرة سنة تقريباً ، ثم هاجر إلى المدينة فمكث بها عشر سنين تقريباً ، ثم انتقل إلى الرفيق الأعلى ، فتكون مدة الرسالة ثلاثاً وعشرين سنة تقريباً ، وقد بينا فيما سبق أن القرآن لم ينزل على رسول الله  صلى الله عليه وسلم  دفعة واحدة ، بل نزل منجماً في مدى الثلاث والعشرين سنة التي هي مدة الرسالة ، فحينئذ يكون بعض القرآن قد نزل بمكة ، وبعضه قد نزل بالمدينة ، بل إن بعضه قد نزل في أماكن أخرى كالذي نزل في بعض أسفاره  صلى الله عليه وسلم .
وللعلماء في تحديد معنى المكي والمدني ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول : أن المكي : ما نزل بمكة سواء نزل بمكة نفسها ، أم نزل في مكان قريب منها ، كمنى ، وعرفات ، والحديبية . لأن ما قارب الشيء يعطي حكمه ، وسواء كان نزوله قبل الهجرة أم بعدها.
والمدني : ما نزل بالمدينة . سواء نزل في المدينة نفسها ، أم في مكان قريب منها كبدر وأحد وغيرهما ، وعلى هذا المذهب يكون المعتبر في التقسيم مكان النزول .
وعليه أيضاً يكون ما نزل في غير مكة والمدينة وضواحيهما ، كالذي نزل في سفر من الأسفار قسماً مستقلا لا يطلق عليه مكي ولا مدني.
المذهب الثاني: أن المكي ما نزل في شأن أهل مكة سواء نزل في مكة نفسها ، أم في مكان قريب منها ، أم نزل في المدينة نفسها أم في سفر ، وسواء نزل قبل الهجرة أم بعدها ، والمدني ما لم ينزل في شأن المكيين ومن على شاكلتهم من عبدة الأصنام.
وعلي هذا المذهب يكون المعتبر في التقسيم المخاطبين.
المذهب الثالث: وهو أشهر المذاهب وأضبطها ـ أن المكي ما نزل قبل هجرة النبي  صلى الله عليه وسلم  إلى المدينة ، سواء نزل في مكة نفسها ، أم في ناحية قريبة منها ، أو بعيدة عنها.
والمدني : ما نزل بعده هذه الهجرة ـ سواء نزل بالمدينة أم بغيرها من البلاد وإن كانت مكة ، أو ما جاورها ، أم نزل في سفر من الأسفار.
وعلى هذا المذهب يكون المعتبر في التقسيم زمن النزول.
وهاك أمثلة توضح لك هذه المذاهب.
(1)   سورة الأنبياء: مكية على جميع المذاهب ، أما على المذهبين الأول والثالث فلأنها نزلت بمكة قبل الهجرة ، وأما على المذهب الثاني فلأنها تضمنت بيان موقف أهل مكة من الدعوة المحمدية ، وإصرارهم على الكفر والعناد ، ومع وضوح الأدلة الدالة على صدق هذه الدعوة وعلى حقية كل ما جاء به محمد  صلى الله عليه وسلم  من عند الله تعالى.     
 
(2) قوله تعالى في سورة الزخرف ( واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة تعبدون ) فهذه الآية على المذهب الأول ليست مكية لأنها لم تنزل في مكة ولا في ضاحية من ضواحيها، وليست مدنية لأنها لم تنزل في المدينة ولا في ضاحية من ضواحيها ، بل نزلت ليلة الإسراء ببيت المقدس .

وقد سبق في تقرير هذا المذهب أن ما نزل في سفر لا يطلق عليه مكي ولا مدني بل هو قسم مستقل بنفسه .
وأما على المذهب الثاني فهي مكية لأنها بينت أن الله تعالى لم يبح في شريعة من الشرائع عبادة غيره من الأوثان، ففيها تقريع لأهل مكة على عبادتهم هذه الأوثان التي لم يأذن الله بها على لسان أي رسول .
وأما على المذهب الثالث: فهي مكية أيضاً لأنها نزلت قبل الهجرة.
3- قوله تعالى في سورة التوبة ( لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة ) الآية. فهي على المذهب الأول ليست مكية ولا مدنية لأنها نزلت في تبوك وعلى المذهب الثاني مدنية لأنها لم تنزل في شأن المكيين، وكذلك هي مدنية على المذهب الثالث لنزولها بعد الهجرة .
4- سورة النصر: ( إذا جاء نصر الله والفتح ) السورة. فهذه السورة مكية على المذهب الأول لأنها نزلت بمكة عام الفتح، أو نزلت بمنى عام حجة الوداع على اختلاف الروايات ، وهي مدنية على المذهبين الثاني والثالث لأنها على المذهب الثاني لم تنزل في شأن أهل مكة ، وعلى المذهب الثالث نزلت بعد الهجرة .
5- سورة التوبة : مدنية على جميع المذاهب ، أما على المذهب الأول والثالث فلأنها نزلت بالمدينة بعد الهجرة ، وأما على المذهب الثاني فإنها لم تنزل في شأن أهل مكة بل نزلت في شأن المنافقين في المدينة وكشف أستارهم، وإبراز ما أضمروه في قلوبهم من كفر وحسد ، وقس ما لم أذكره على ما ذكرته والله ولي التوفيق .
 
طريقة معرفة المكي والمدني
لم يرد عن النبي  صلى الله عليه وسلم  في بيان ذلك شيء ، ولم يثبت أنه أخبر بأن هذه السورة مكية ، وتلك مدنية ، وإنما لم يفعل ذلك لأنه لم يؤمر به ولم يجعل الله تعالى معرفة ذلك من فرائض الدين التي يلزم المكلف علمها ويضره الجهل بها ، ولأن الصحابة كانوا في غنى عن هذا البيان ، لأنهم شاهدوا الوحي . والتنزيل ، وحضروا مكانه وزمانه، ووقفوا على أسباب النزول ومقتضياته، قال عبدالله بن مسعود رضي الله تعالى عنه.
" والله الذي لا اله إلا هو ما نزلت سورة من كتاب الله تعالى إلا وأعلم أين نزلت ، ولا نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيما نزلت ولو أعلم أن أحداً أعلم منى بكتاب الله تعالى تبلغه الإبل لركبت إليه ، وقال أيوب : سأل رجل عكرمة عن آية من القرآن فقال : نزلت في سفح ذلك الجبل، وأشار إلى سلع .
علامات المكي والمدني
وضع العلماء علامات وأمارات يعرف بها المكي والمدني وبها يتميز كل منهما عن الآخر .
علامات المكي:
(1)   وجود لفظ " كلا " في السورة، فكل سورة فيها هذا اللفظ فهي مكية، وقد ذكر هذا اللفظ في القرآن ثلاثاً وثلاثين مرة، في خمس عشرة سورة، كلها في النصف الأخير من القرآن الكريم، قال بعضهم:
وما نزلت كلا بيثرب فاعلمن – ولم تأت في القرآن في نصفه الأعلى.
(2)           وجود آية سجدة في السورة، فكل سورة فيها آية سجدة فهي مكية .
(3)   افتتاح السورة بحروف التهجي مثل : الم ، الر ، طسم ، حم ، ق ، ن ، فكل سورة افتتحت بحروف التهجي فهي مكية إلا سورتين اثنتين ، البقرة ، وآل عمران ، فهما مدنيتان بالإجماع مع كونهما مفتتحين بحروف التهجي .
(4)   ذكر قصة آدم وإبليس في السورة، فكل سورة ذكرت فيها قصة آدم وإبليس فهي مكية إلا سورة البقرة فهي مدنية مع ذكر هذه القصة فيها.
(5)          ذكر لفظ يا بني آدم في السورة، فكل سورة فيها هذا اللفظ فهي مكية.
(6)    اشتمال السورة على ذكر أنباء الرسل وأحوال الأمم السابقة ، لما فيها من أبلغ المواعظ ، وأنفع العبر ، ومن تقرير سنته تعالى في كونه، وهي إهلاك الأمم المكذبة لرسلها ، الخارجة على أوامر ربها ، ونصر من صدق رسل الله، ووقف عند حدوده ، وعمل بشرائعه ، فكل سورة تضمنت ما ذكر فهي مكية إلا سورة البقرة فهي – مع اشتمالها على ذكر قصص بعض الرسل – مدنية .
وهذه العلامات الست مطردة، فإذا تحقق أحدها في سورة كانت هذه السورة مكية قطعاً.
7- اشتمال السورة على آية مصدرة بلفظ ( يا أيها الناس ). فذكر الآية التي صدرت بهذا اللفظ في سورة ما علامة على أن هذه السورة مكية، قال بعض الأفاضل : والسبب في ذلك أن الكفر كان غالباً في أهل مكة، فخوطبوا بيا أيها الناس ، وإن كان غيرهم داخلا فيهم . انتهى .
وهذه العلامة غير مطردة ، إذ قد توجد الآية المصدرة بهذا اللفظ في سورة مدنية ، كقوله تعالى في سورة البقرة - وهي مدنية اتفاقاً – (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم ) الآية ، وقوله تعالى في صدر سورة النساء وهي مدنية أيضاً ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ) الآية ، فهذه العلامة أغلبية فقط بمعنى أن الأغلب والأكثر أن لفظ يا أيها الناس يكون في السور المكية ، وقد يكون في السور المدنية أيضاً ولكنه قليل .
وقد عد بعض الفضلاء الآيات التي صدرت بيا أيها الناس وهي في سورة مدنية فأوصلها إلى ثمان آيات .
1-   ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم ) ، 2- ( يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيباً ) ، 3- ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم ) ، 4- ( إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين ) ، 5- ( يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم ) ، 6- ( يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم ) ، والأربعة في سورة النساء ، 7- ( يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ) ، أول سورة الحج ، 8 ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى )، في سورة الحجرات .
8- قصر الآيات ، فقصر آية السورة أمارة على كونها مكية ، علل بعضهم ذلك بأن أهل مكة كانوا أهل فصاحة ولسن ، فيناسبهم الإيجاز دون الإطناب ، هذه العلامة أغلبية أيضاً ، إذ قد يوجد قصر الآيات المدنية، كسورة النصر ، فإن آياتها قصيرة مع كونها مدنية .
9- عناية آي السورة بالدعوة إلى المقصد الأسمى من الدين وهو الإيمان بالله ، وتوحيده ، والاعتقاد بأنه تعالى موصوف بكل كمال ومنزه عن كل نقص ، والإيمان برسالة النبي  صلى الله عليه وسلم  وبرسالة من سبقه من الرسل ، والإيمان بملائكة الله تعالى وكتبه ، و باليوم الآخر وما فيه من بعث ونشور ، وحساب وجزاء ، ونعيم وعذاب ، مع إثبات ذلك كله بأدلة الكون ، وبراهين العقل ، ثم النعي على المشركين ، وأبطال شبههم ، وتفنيد مزاعمهم ، وتسفيه أحلامهم ، بعكوفهم على عبادة أصنام لا تملك لأنفسها، فضلا عن غيرها، نفعاً ولا ضراً، فكل سورة اشتملت على ما ذكر هي مكية .
10- تحدث أي السور عن مثالب المشركين البغيضة، وعاداتهم المنكرة، من القتل بغير حق، ووأد البنات واستباحة الأعراض ، وأكل أموال اليتامى ظلماً ، وأكل الربا، وشرب الخمر، إلى غير ذلك من الموبقات ، مع تحذيرهم منها، ووعيدهم على ارتكابها ، فكل سورة هذا شأن آياتها فهي مكية .
11- تضمن آيات السور حث العرب على التحلي بأصول الفضائل، وأمهات المكارم ، من الصدق في الحديث ، والصبر على المكارة ، والأمانة ، والعدل ، وحسن المعاملة ، ورعاية الجوار ، والوفاء بالعهد، وبر الوالدين ، والتواضع، ولين الجانب، والعفة، والعلم ، والإخلاص ، ومحبة الغير ، وطهارة القلوب ، ونظافة الألسنة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى غير ذلك من الفضائل، فكل سورة تضمنت آياتها ما ذكر أو شيئاً منه فهي مكية ، وهذه العلامة واللتان قبلها بحسب الغالب أيضاَ، إذ قد توجد آيات في سور مدنية مشتملة على ما شرحناه في العلامات الثلاث .
 
علامات المدني
(1)   اشتمال السورة على آية صدرت بلفظ ( يا أيها الذين آمنوا ) فذكر الآية المصدر بهذا اللفظ في السورة سواء كانت هذه الآية في أول السورة أم في وسطها أمارة على أن هذه السورة مدنية، قال بعضهم : والسبب في ذلك أن الإيمان كان غالباً على أهل المدينة فخوطبوا بيا أيها الذين آمنوا وإن كان غيرهم داخلا فيهم، وهذه العلامة مطردة ، فإذا وجد هذا اللفظ في سورة ما كانت هذه السورة مدنية قطعاً .
(2)   طول أكثر سور وآياته، قال بعض الفضلاء : وذلك لأن أهل المدينة لم يكونوا يضاهئون أهل مكة في الذكاء والألمعية وطول الباع في باحات الفصاحة والبيان، فيناسبهم الشرح والإيضاح، وذلك يستتبع كثيراً من البسط والإسهاب . انتهى ، يضاف إلى ذلك أن سور المدني وآياته طويلة نظراً لما اشتملت عليه من الأحكام والتشريعات ، ومن شواهد طول سور المدنية وآياتها على السور المكية وآياتها أن معظم السور الطوال مدنية، ومعظم السور القصار مكية، وأن سورة الأنفال وهي مدنية قد اشتملت على خمس وسبعين آية ، وأن سورة الشعراء – وهي مكية – قد اشتملت على سبع وعشرين ومائتي آية مع أن كلا منهما نصف جزء ، فطول السورة وطول آياتها علامة على أنها مدنية ، وهذا بحسب الأكثر والغالب، إذ قد توجد سورة طويلة وآياتها طوال وهي مكية كسورة الأنعام وإن كان ذلك قليلاً ، فهذه العلامة أغلبية لا مطردة .
وتعبيرنا بأكثر في قولنا : طول أكثر سوره وآياته – لإفادة أن من المدني سوراً قصيرة مشتملة على آيات طوال كسورتي الحجرات والمجادلة .
3- دعوة أهل الكتابين اليهود والنصارى إلى الانضواء تحت لواء الإسلام وإقامة البراهين على فساد عقيدتهم ، وبعدهم عن الحق والصواب، وتحريفهم كتب الله .
4- اشتمال السورة على الإذن بالجهاد، وبيان أحكامه، لأن الجهاد لمن يشرع إلا بالمدينة.
5- تضمن السورة بيان قواعد التشريع التفضيلية، والأحكام العملية في العبادات والمعاملات، والفرائض ، وأحكام الحدود، وأنواع القوانين المدنية والجنائية، والحربية، والاجتماعية ، وأحكام الأحوال الشخصية ونظام الأسرة إلى غير ذلك من دقائق التشريع .
6- اشتمال السورة على أحوال المنافقين ، وموقفهم من الدعوة المحمدية وتوقيف الرسول  صلى الله عليه وسلم  على جلية أمرهم ، وما يكنون له من حسد وعداوة، ذلك أن المنافقين لم تنشأ جماعتهم إلا في المدينة لما قويت شوكة المسلمين، وصار ضعاف النفوس يخشونهم من جهة ويخشون الكفار من جهة أخرى، فالكلام عنهم إنما يكون بعد الهجرة ، وهذه العلامات الأربع مطردة.
 
السور المكية والمدنية   ص101
أورد الجلال السيوطي في الأتقان في بيان السور المكية والمدنية روايات متعارضة، وآثاراً متناقضة، إذ يدل بعضها على أن سورة كذا مكية ، ويدل البعض الآخر على أن هذه السورة نفسها مدنية ، وبالبحث العميق، والنظر الفاحص، والاطلاع على مراجع متعددة في هذا الموضوع تبين لنا أن سور القرآن الكريم من حيث كونها مكية أو مدنية تنقسم إلا ثلاثة أقسام .
القسم الأول: سورة اتفقت الروايات ، واتحدت الآثار على أنها مدنية وهي السور الآتية / البقرة ، آل عمران ، النساء، المائدة، الأنفال، براءة ، النور ، الأحزاب، محمد، الفتح ، الحجرات ، المجادلة، الحشر، الممتحنة، الجمعة، المنافقون، الطلاق، التحريم، النصر، فهذه السور التسع عشرة قد اجمع العلماء على أنها مدنية .
القسم الثاني: سور اختلف فيها الروايات، وتعارضت القول، فأفاد بعضهم أنها مكية وأفاد البعض الآخر أنها مدنية، وهي ثلاث وعشرون سورة وهي:
(1)   الفاتحة، روى عن مجاهد والزهري وعطاء وغيرهم أنها مدنية، وروي عن أكثر العلماء أنها مكية وهو القول الصحيح، واستدل لهذا القول بأمرين.
الأول: قوله تعالى في سورة الحجر ( ولد آتيناك سبع من المثاني والقرآن العظيم ) فقد فسر النبي  صلى الله عليه وسلم  المثاني بسورة الفاتحة كما في الصحيح، وسورة الحجر مكية بالاتفاق ، وقد امتن الله تعالى فيها على نبيه  صلى الله عليه وسلم  بالسبع المثاني وهي الفاتحة، فتكون ذلك دليلا واضحاً على تقدم نزول الفاتحة على الحجر إذ لا يمتن الله تعالى على نبيه  صلى الله عليه وسلم  إلا بما يكون قد نزل فعلاً .
الأمر الثاني: أن الإجماع منعقد على أن الصلوات الخمس فرضت بمكة، ولم يحفظ أنه كان في الإسلام صلاة بغير الفاتحة ، وممن ذهب إلى أن الفاتحة مكية الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، لذلك روى عنه أنه قال : نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش، وقال الحسين بن الفضل: وقد بلغه أن مجاهد يقول إن الفاتحة مدنية هذه هفوة من مجاهد لأن العلماء على خلاف قوله .
(2)   سورة يونس : قيل إنها مدنية والسواد الأعظم من العلماء سلفاً وخلفاً على أنها مكية، ومما يستدل به على مكيتها ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لما بعث الله محمداً  صلى الله عليه وسلم  رسولا أنكرت العرب ذلك وقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً فأنزل الله تعالى في صدر سورة يونس ( أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس ) الآية .
(3)   سورة الرعد : في رواية ابن عباس وعلي بن أبي طلحة أنها مكية، وفي رواية غيرهما أنها مدنية ، ومعاني آي هذه السورة تدل على مكيتها .
(4)   سورة الحج: في بعض الروايات أنها مدنية ما عدا قوله تعالى (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ) إلى قوله تعالى ( أو يأتيهم عذاب يوم عقيم ) وفي بعض الروايات أنها مكية إلا قوله تعالى ( هذان خصمان ) إلى ( وذوقوا عذاب الحريق ) وذهب الجمهور إلى أنها مختلطة فيها المكي والمدني وإن اختلفت في التعيين .
(5)          سورة الفرقان: روى عن الضحاك أنها مدنية، والجمهور على أنها مكية.
(6)   سورة الرحمن : روي عن عبدالله بن مسعود ومقاتل أنها مدنية، والجمهور على أنها مكية ، قال في الإتقان : وهو الصواب . ويدل له ما أخرجه الترمذي وغيره عن جابر . قال : لما قرأ رسول الله  صلى الله عليه وسلم  على أصحابه سورة الرحمن حتى فرغ منها قال : ما لي أراكم سكوتاً ؟ للجن كانوا أحسن منكم رداً ، وما قرأت عليهم مرة (فبأي آلاء ربكما تكذبان ) إلا قالوا : ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد : وقصة الجن كانت بمكة، وأخرج أحمد في مسنده عن أسماء بنت أبي بكر قالت : سمعت رسول الله  صلى الله عليه وسلم  وهو يصلي نحو الركن قبل أن يصدع بما يؤمر والمشركون يسمعون ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) وهذا يدل على تقدم نزول الرحمن على الحجر التي هي مكية اتفاقاً .
(7)    سورة الحديد : عن ابن عباس أنها مدنية ، وهو قول الجمهور ، قال ابن عطية لا خلاف ان فيها قرآناً مدنياً ، لكن يشبه أن يكون صدرها مكياً . يشهده لهذا ما أخرجه البزار والبيهقي وغيرها أن عمر بن الخطاب دخل على أخته قبل أن يسلم فإذا صحيفة فيها أول سورة الحديد فقرأها حتى بلغ ( آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ) فأسلم ، وقال قوم ، إنها مكية
(8)   سورة الصف : مذهب الجمهور أنها مدنية ، فقد أخرج أحمد والترمذي والحاكم وغيرهم عن عبدالله بن سلام قال : قصدنا نفراً من أصحاب رسول الله  صلى الله عليه وسلم  فتذاكرنا فقلنا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه فأنزل الله تعالى ( سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم ) قال عبدالله بن سلام فقرأها علينا رسول الله  صلى الله عليه وسلم  حتى ختمها وقال ابن يسار هي مكية .
9- سورة التغابن : عن ابن عباس وعطاء أنها مكية إلا ( يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم ) إلى آخر السورة ، والأكثرون على أنها مدنية .
10- سورة الإنسان: قيل مدنية والجمهور على أنها مكية.
11- سورة التطفيف : عن ابن مسعود والضحاك أنها مكية ، وعن الحسن وعكرمة والسدي أنها مدنية ، ويدل له ما أخرجه النسائي عن ابن عباس قال : لما قدم النبي  صلى الله عليه وسلم  المدينة كان أهلهل من أخبث الناس كيلا، فأنزل الله تعالى ( ويل للمطففين ) الآيات فأحسنوا الكيل .
12- سورة الأعلى: قيل مدنية، والأكثرية الكاثرة من العلماء أنها مكية.
13- سورة الفجر : فيها قولان ، وجمهور العلماء على مكيتها.
14- سورة القدر : قال أبو حيان هي مدنية في قول الأكثر وحكى المارودي عكسه وقيل : إنها أول سورة نزلت بالمدينة .
15- سورة البينة: قيل مدنية، والأشهر أنها مكية.
16- سورة الزلزلة: فيها قولان. ويستدل على مدنيتها بما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه لما نزلت ( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ) قلت : يا رسول الله إني لراء عملي ؟ الحديث - وأبو سعيد لم يكن إلا بالمدينة .
17- سورة والعاديات - قيل إنها مدنية . والظاهر أنها مكية لأن معاني آياتها تدل على ذلك.
18- سورة ألهاكم التكاثر : الأكثرون على أنها مكية، وقيل مدنية ، ويدل له ما أخرجه ابن ابي حاتم عن ابن بريدة أنها نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار تفاخروا - الحديث . وعن قتادة أنها نزلت في اليهود . وأخرج البخاري عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : كنا نرى هذا أنه من القرآن - يعني لو كان لابن آدم واد من ذهب حتى نزلت ( ألهكم التكاثر) وأخرج الترمذي عن على رضي الله عنه قال : ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت وعذاب القبر لم يذكر إلا بالمدينة في قصة اليهودية كما في الصحيح .
19- سورة الماعون : قيل مدنية . وقول الجمهور أنها مكية.
20- الكوثر: فيها قولان، ولكل قول جماعة ينتصرون له ويعضدونه، وممن رجح القول بأنها مدنية الإمام النووي في شرح مسلم مستنداً إلى ما أخرجه مسلم عن أنس رضي الله عنه قال : بينا رسول الله  صلى الله عليه وسلم  بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة فرفع رأسه - متبسما فقال أنزلت علي آنفاً سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ( إنا أعطيناك الكوثر ) حتى ختمها . وأنس لم يكن إلا في المدينة .
21- سورة الإخلاص : مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وغيرهم، ومدنية في قول ابن عباس ومحمد بن كعب والضحاك وغيرهم . ورجح السيوطي في الإتقان أنها مدنية .
22-23- سورتا الفلق والناس: مكيتان في قول الحسن وعكرمة وغيرهما ، مدنيتان في قول ابن عباس وقتادة وغيرهما وهذا هو الصحيح ، لأن سبب نزولهما سحر النبي  صلى الله عليه وسلم  ، وهم إنما سحروه بالمدينة كما جاء في الصحاح .
القسم الثالث: سورة اتفقت الروايات والآثار على أنها مكية، وهي باقي سور القرآن الكريم. وهي ثنتان وسبعون سورة .
وينبغي أن تعلم أن الحكم على السورة بأنها مكية يصدق بحالين.
الأولى: أن يكون جميع آيتها مكياً. كسورة المدثر فإن آياتها كلها مكية، وليس فيها آية مدنية.
الثانية: أن يكون معظم آياتها مكياً، ويكون بعضها مدنياً، كسورة النحل فإنها كلها مكية ما عدا قوله تعالى ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ) الآيات الثلاث إلى آخر السورة فإنها مدنية .
وكذلك الحكم على السورة بأنها مدنية يصدق بحالين :
الأولى: أن يكون جميع آياتها مدنياً، كسورة النور.
الثانية : أن يكون أغلب آياتها مدنياً - ويكون بعضها مكياً، كسورة محمد  صلى الله عليه وسلم  فإنها كلها مدنية إلا ( وكأين من قرية هي أشد قوة ) الآية فإنها مكية لنزولها حين خروج النبي  صلى الله عليه وسلم  من مكة إلى الغار قاصداً الهجرة .
فالحكم على السورة بكونها مكية أو مدنية تابع لجميع آياتها " أو لمعظمها " فإن كان جميع الآيات أو معظمها مكياً كانت السورة مكية.
وإن كان جميع الآيات أو معظمها مدنياً كانت السورة مدنية.
 
 
 
 
 
 ترتيب آيات القرآن الكريم وسوره   
بينا لك فيما سبق أن القرآن الكريم - من حيث نزوله - قسمان، مكي ومدني، وشرحنا لك حقيقة كل قسم، وما يتميز به كل منهما عن الآخر، ثم وقفناك على السور المجمع على كونها مدنية، والسور المجمع على كونها مكية، والسور المختلف فيها بين كونها مكية أو مدنية .
ونريد في هذا المبحث أن نعرض السؤال الآتي الذي كثيراً ما نسمعه يدور على الألسنة ويتردد على الأفواه، ونتولى الإجابة عنه، ثم نبين مذاهب العلماء في ترتيب آي القرآن وسوره مع بيان حكمة هذا الترتيب بإيجاز.
وحاصل السؤال: هل ترتيب الآيات والسور المكتوب في المصاحف، المقروء بالألسن، هو بعينه ترتيب النزول ؟ أو هذا ترتيب وذاك ترتيب آخر ؟ وإذا كان ترتيب التلاوة والكتابة غير ترتيب النزول فما الحكمة فيه ؟
والجواب عن هذا السؤال أن ترتيب التلاوة والكتابة غير ترتيب النزول، ومن شواهد ذلك أن في القرآن آيات مدنية نزلت بعد الهجرة قد ألحقت بآيات مكية نزلت قبل الهجرة ، مثل قوله تعالى في سورة الأنعام ( قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم ) الآيات الثلاث ، فإن هذه الآيات الثلاث قد صح النقل بأنها مدنية نزلت بعد الهجرة، وقد ألحقت بسورة الأنعام وهي مكية نزلت قبل الهجرة اتفاقاً .
ومثل قوله تعالى في سورة النحل ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) الآيات الثلاث إلى آخر السورة فإن هذه الآيات نزلت بعد الهجرة فهي مدنية وقد ألحقت بسورة النحل وهي مكية نزلت قبل الهجرة بالإجماع .
كما أن هناك آيات مكية نزلت قبل الهجرة ولكنها ألحقت بآيات مدنية نزلت بعدها، كقوله تعالى في سورة الأنفال ( يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ) فإن هذه الآية مكية ، فقد أخرج البزاز بسنده إلى ابن عباس أنها نزلت عقب إسلام عمر ، ومعلوم أن إسلامه كان بمكة بعد البعثة المحمدية بقليل، ومع كون هذه الآية مكية فقد ألحقت بسورة الأنفال وهي مدنية نزلت بعد الهجرة .
وكذلك قوله تعالى في سورة البقرة ( ليس عليكم هداهم ) الآية ، فهذه الآية نزلت قبل الهجرة فهي مكية – كما في الإتقان للسيوطي – وألحقت بسورة البقرة وهي مدنية نزلت بعد الهجرة .
ومن شواهد ذلك أيضاً أن بعض الآيات يكون ناسخاً للبعض الآخر، ويكون هذا الناسخ متقدماً في التلاوة والكتابة على المنسوخ، فحينئذ يتعين أن يكون المنسوخ متقدماً في النزول على الناسخ، وإن كان متأخراً عنه في القرآن والكتابة، كقوله تعالى في البقرة ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) الآية فإنها ناسخة الحكم الذي تضمنته هذه الآية، وهي في البقرة أيضاً ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم ) الآية ، مع أن الآية الأولى سابقة في التلاوة والكتابة على الثانية ، فحينئذ يتعين أن تكون الثانية سابقة على الأولى في النزول وإن تأخرت عنها في القراءة والكتابة ، لأن المنسوخ لا بد أن يكون متقدما نزولا على الناسخ، وإن تأخر عنه تلاوة وكتابة .
إذن: يكون ترتيب التلاوة والكتابة غير ترتيب النزول.
 
 
 
ترتيب الآيات
قد انعقد إجماع الأمة سلفها وخلفها على أن ترتيب آيات القرآن في سورها على النحو الذي نراه اليوم في المصاحف كان بتوقيف من النبي  صلى الله عليه وسلم  . عن جبريل عليه السلام ، عن رب العزة جل جلاله ، وأنه لا مجال للرأي والاجتهاد فيه، فقد كان جبريل ينزل بالآية والآيات فيوحيها إلى النبي  صلى الله عليه وسلم  ويدله على موضع كل آية من سورتها، ثم يبلغها النبي  صلى الله عليه وسلم  لأصحابه ويقرؤها عليهم، ويستحفظهم إياها، فيحفظونها من فورهم، ثم يتلون أمامه ما حفظوا، ثم يأمر كتاب الوحي بكتابة ما نزل، ويعين لهم السورة التي توضع فيها الآية أو الآيات، كما يعين لهم موضع الآية أو الآيات من السورة، فيقول لهم : ضعوا هذه الآيات في سورة كذا بجانب آية كذا في هذه السورة، وكان جبريل يعارضه بالقرآن في رمضان من كل عام مرة، وعارضه غي العام الأخير مرتين .
وكان الرسول  صلى الله عليه وسلم  حين مدارسته القرآن مع جبريل ومعارضته له كل عام مرة والعام الأخير مرتين يقرؤه مرتب الآيات، كما كان يقرؤه كذلك في صلاته وفي خطبه وفي سائر أوقات قراءته بمحضر من الصحابة جميعاً، حتى إذ تم نزول القرآن كانت كل آياته مرتبة في سورها وقد حفظها عنه الصحابة بترتيبها، فكل من حفظ القرآن أو شيئاً منه من الصحابة لم يحفظه إلا على هذا الترتيب الذي هو عليه الآن في سائر المصاحف . ثم إن هذا الترتيب ذاع واستفاض بين المسلمين في شتى البقاع، ويقرءونه في صلاتهم ويتدارسونه فيما بينهم، ويسمعه بعضهم من بعض، ويتلقاه بعضهم عن بعض وليس لواحد من الصحابة – كائناً من كان – دخل في ترتيب شيء من آيات القرآن الكريم.
فلما كان زمن أبي بكر وأراد جمع القرآن ، وجمعه فعلاً ، لم يكن عمله متناً ولا ترتيب الآيات، وإنما كان مقصوراً على نقل القرآن من العسب واللخاف وغيرها إلى صحف خشية عليه من التفرق والضياع إذ كثر القتل في حفاظه، والجمع الذي كان في عهد عثمان لم يعد نقل القرآن من الصحف إلى مصاحف ، فكل من جمعي أبي بكر وعثمان كان وفق الترتيب المحفوظ المتواتر عن النبي  صلى الله عليه وسلم  .
ثم ان نسخ المصاحف من عهد عثمان إلى وقتنا هذا قد لوحظ فيه هذا الترتيب المجمع عليه، وقد نقل الإجماع على هذا كثير من العلماء الأعلام، كالإمام بدر الدين الزركشي في البرهان وأبي جعفر بن الزبير في مناسباته حيث يقول : " ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه  صلى الله عليه وسلم  وأمره من غير خلاف في هذا بين المسلمين " ، انتهى .
وقد استند هذا الإجماع إلى نصوص كثيرة داله على أن ترتيب آيات القرآن توقيفي إجمالا وتفصيلا .
فمن هذا النصوص ما رواه الإمام أحمد بإسناد حسن عن عثمان بن أبي العاص قال : كنت جالساً عند رسول الله  صلى الله عليه وسلم  إذ شخص ببصره ثم صوبه ، ثم قال : أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه الصورة ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربة ) الآية .
فهذا الحديث صريح في أنم جبريل علمه موضع هذه الآية من سورتها.
وكذلك كان دأبه في كل آية .
ومنها ما أخرجه البخاري عن ابن الزبير قال : قلت لعثمان بن عفان، (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم ) الآية نسخها الآية الأخرى (19) فلم تكتبها أو تدعها (20) قال ابن أخي لا أغير شيئاً من مكانه، فهذا الحديث صريح في أن إثبات هذه الآية في مكانها من سورتها توقيفي، لا يستطيع عثمان أن يتصرف فيه لأنه وجدها مكتوبة في المصحف المنقول مما كتب بين يدي رسول الله  صلى الله عليه وسلم  فلم يغيرها من مكانها لأن هذا أمر لا مجال فيه للرأي والاجتهاد .
ومنها ما رواه مسلم عن عمر رضي الله عنه قال : ما سألت النبي  صلى الله عليه وسلم  عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بإصبعه في صدري وقال : تكفيك آية الصيف في آخر سورة النساء، فهذا الحديث يدل على أن آيات السور كانت مرتبة معلومة الترتيب في حياة رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ، وكان معلوماً التي في آخر النساء، فدله على موضع هذه الآية من سورتها، وهي قوله تعالى ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ) إلى آخر السورة وإنما سميت هذه الآية آية الصيف لأن نزولها كان في الصيف في سفر حجة الوداع .
ومنها ما رواه البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال النبي  صلى الله عليه وسلم  : " من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه " أي أجزأتاه عن قيام الليل بالقرآن ، أو كفتاه شر الشيطان . فالحديث صريح في أن تعيين موضعهما كان بتعليم الرسول  صلى الله عليه وسلم  ، وذلك يؤيد ما نقلناه من الإجماع. والآيتان المذكورتان في الحديث هما ( آمن الرسول بما أنزل من ربه والمؤمنون ) إلى آخر السورة .
(19) وهي ( الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن ) الآية.
(20) هذا شك من الراوي هل قال لم تكتبها أو قال لم تدعها أي تتركها مكتوبة مع أنها منسوخة ، وكان ابن الزبير يظن أن ما نسخ حكمه تنسخ تلاوته ,
 
ومنها ما رواه مسلم عن أبي الدرداء مرفوعاً " من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال " وفي لفظ " من قرآ العشر الأواخر من سورة الكهف " .
ويدل على أن ترتيب الآيات في سورها توفيقي أيضاً ما ثبت في السنن الصحيحة من قراءته  صلى الله عليه وسلم  لسور عديدة كسورة البقرة، وآل عمران ، والنساء ، وما ورد في البخاري من قراءته عليه الصلاة والسلام سورة الأعراف في صلاة المغرب، وروي النسائي أنه قرأ سورة ( قد أفلح المؤمنون ) في صلاة الصبح . وروى الطبراني أنه قرأ سورة الروم في صلاة الصبح ، وروي البخاري ومسلم أته قرأ الم تنزيل " السجدة " وسورة الإنسان ، في صبح يوم الجمعة، وروي مسلم أنه قرأ سورة " ق " في الخطبة ، وفي البخاري أنه قرأ سورة " النجم " على الكفار بمكة، وفي مسلم أنه قرأ سورة " اقتربت الساعة " وسورة " ق " في صلاة العيد – وفي مسلم أيضاً أنه قرأ سورة الجمعة ، وسورة المنافقين في صلاة الجمعة ، إلى غير ذلك ، وكان عليه الصلاة والسلام يقرأ هذه السور وغيرها من باقي سور القرآن الكريم مرتبة الآيات بمشهد من الصحابة، وعلى مرأى ومسمع منهم جميعاً ، فتلقوا عنه ترتيب الآيات في سورها ، وما كان الصحابة ليرتبوا آيات القرآن ترتيباً مخالفاً لترتيب الرسول  صلى الله عليه وسلم  وهم أحرص الناس على اتباعه، ومن نصوص علماء الإسلام الدالة على أن ترتيب آيات القرآن موحى به إلى النبي  صلى الله عليه وسلم  ما نقله الإمام السيوطي في الإتقان حيث يقول : إنما ألف القرآن على ما كانوا يسمعون من النبي  صلى الله عليه وسلم
وقال البغوي في شرح السنة : إن الصحابة رضي الله عنهم جمعوا بين الدفتين القرآن الذي أنزله الله على رسوله، من غير أن زادوا أو نقصوا منه شيئاً خوف ذهاب بعضه بذهاب حفظته، فكتبوا كما سمعوه من رسول الله  صلى الله عليه وسلم  من غير أن قدموا شيئاً أو أخروا أو وضعوا له ترتيباً لم يأخذوه من رسول الله ، وكان رسول الله  صلى الله عليه وسلم  يلقن أصحابه ويعلمهم ما نزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبريل إياه على ذلك، وإعلامه عند نزول كل آيه أن هذه الآية تكتب عقب آية كذا في سورة كذا، فثبت أن سعى الصحابة كان في جمعه في موضع واحد لا في ترتيبه ، فإن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب أنزله الله جملة إلى السماء الدنيا . ثم كان ينزله مفرقاً عند الحاجة، وترتيب النزول غير ترتيب التلاوة .
وقال ابن الحصار : ترتيب السور ووضع الآيات مواضعها إنما كان بالوحي . كان رسول الله  صلى الله عليه وسلم  يقول : ضعوا آية كذا في موضع كذا، وقد حصل اليقين من النقل المتواتر بهذا الترتيب من تلاوة رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ومما أجمع الصحابة على وضعه هكذا في المصحف .
وقال القاضي أبو بكر في الانتصار : ترتيب الآيات أمر لازم أو حكم واجب فقد كان جبريل يقول : ضعوا آية كذا في موضع كذا ، وقال أبو بكر أيضاً : والذي نذهب إليه أن جميع القرآن الذي أنزله الله وأمر بإثبات رسمه ، ولم ينسخه، ولا رفع تلاوته بعد نزوله – هو هذا الي بين الدفتين الذي حواه مصحف عثمان ، وأنه لم ينقص منه شيء ولا زيد فيه شيء، وأن ترتيبه ونظمه ثابت على ما نظمه الله تعالى ورتبه من آي السور، لم يقدم من ذلك مؤخر ، ولا أخر منه مقدمـ وأن الأمة ضبطت عن النبي  صلى الله عليه وسلم  ترتيب آي كل سورة ومواضعها، وعرفت مواقعها، كما ضبطت عنه نفس القراءة، وذات التلاوة . انتهى من الإتقان للسيوطي ؟ فثبت بهذه النصوص المتضافرة أن ترتيب آي كل سورة على ما هي عليه الآن في المصحف تلقاه الصحابة عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  وتلقاه الرسول  صلى الله عليه وسلم  عن جبريل عن الله تعالى فيكون توقيفياً لا مجال فيه للنظر والقياس ولا محل فيه للرأي والاجتهاد ، فليس لأحد من الناس مهما بلغ شأنه أن يغير فيه وضع آيه أو كلمة، فيقدم بعض الآي على بعض – أو يؤخر بعض الكلم عن بعض . ومن تحدثه نفسه بشيء من هذا فإنه يكون مبتدعاً وضالا – ويخرج من ربقة الإسلام والعياذ بالله تعالى .
ويؤخذ من هذه النصوص أنه – كما يجب ترتيب الآيات في التلاوة – يجب ترتيبها في الكتابة ، وهذا أمر مجمع عليه أيضاً . والله الموفق.
 
 
 
 
 
 
 
ترتيب السور
أما ترتيب السور على ما هي عليه الآن فقد اختلفوا فيه، هل هو توقيفي أيضاً كترتيب الآيات ، أو من هو عمل الصحابة واجتهادهم ؟ وأشهر مذاهبهم في ذلك ثلاثة مذاهب .
المذهب الأول: أن ترتيبها كان باجتهاد الصحابة وقد جنح إلى هذا المذهب الإمام مالك والقاضي أبو بكر فيما اعتمده واستقر عليه رأيه، وغيرهما – قال الإمام الزركشي في البرهان ، قال أبو الحسين أحمد بن فارس : جمع القرآن على ضربين : أحدهما تأليف السور كتقديم السبع الطوال ، وتعقيبها بالمئين ، فضم الآي بعضها إلى بعض فذلك شيء تولاه رسول الله  صلى الله عليه وسلم   كما أخبر به جبريل عن أمر ربه عز وجدل " . انتهى .
واستدل هؤلاء على مذهبهم بأن مصاحف السلف من الصحابة كانت مختلفة في ترتيب السور ، فمصحف على رضي الله عنه رتب السور حسب نزولها ، فأوله سورة العلق، ثم المدثر، ثم ن، ثم المزمل، ثم تبت ، ثم التكوير وهكذا إلى آخر السور المكية، ثم السور المدنية حسب نزولها أيضاً .
ومصحف ابن مسعود وأبي بن كعب كانا مبدوئين بالبقرة ثم النساء ، ثم آل عمران ، ثم الأنعام ، ثم الأعراف ، ثم المائدة وهكذا ، فلو كان ترتيب السور توقيفياً متلقى عن النبي  صلى الله عليه وسلم   كترتيب الآيات لما اختلفت فيه المصاحف ، وهذا الاستدلال مردود من ثلاثة أوجه .
الأول: أن المصاحف المذكورة كتبت قبل العرضة الأخيرة فلما كانت هذه العرضة، واستقر بها أمر القرآن ترتيباً وإحكاماً رتبت هذه المصاحف على مقتضاها بأمره  صلى الله عليه وسلم
الثاني: أنه قد ورد في الأحاديث الصحيحة ما يدل على أن ترتيب كثير من السور كان معلوماً في حياة النبي  صلى الله عليه وسلم  وسيأتي بيان هذه الأحاديث.
الثالث : أن زيد بن ثابت الذي أسند إليه الخليفة عثمان بن عفان رياسة الجمع الذي رتبوا مصاحفه ونسخوها – كان من كتاب الوحي، وشهد العرضة الأخيرة للقرآن ، وعلم ترتيب السور من رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ، وليس من المعقول أن يحدث زيد من تلقاء نفسه ترتيباً للسور من غير ما تلقاه من رسول الله  صلى الله عليه وسلم  لأن ذلك لم يكن من عادتهم ، فلا بد أن يكون ترتيبه للسور قد تلقاه عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  .
المذهب الثاني: أن ترتيب السور توقيفي منقول عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  إلا سورتي الأنفال وبراءة فإن وضعهما في موضعهما كان باجتهاد عثمان رضي الله عنه ووافقه عليه الصحابة – وممن جنح إلى هذا المذهب الإمام البيهقي المحدث المشهور في كتاب المدخل ، وجلال الدين السيوطي في كتاب الإتقان .
واستدل أصحاب هذا المذهب بما رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم عن أبن عباس رضي الله عنهما قال : قلت لعثمان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال – وهي من المثاني ، وبراءة وهي من المثين ، ففرقتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال ، فقال عثمان : كان رسول الله  صلى الله عليه وسلم  تنزل عليه السور ذوات العدد فكان إذ نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة ، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها فقبض رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ولم يبين لنا أنها منها ، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتهما في السبع الطوال .
فهذا الحديث صريح في أن وضع الأنفال وبراءة في موضعهما من المصحف كان باجتهاد عثمان لأنه نسب وضعها إلى نفسه ولم يسنده إلى رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ، وأما ما عداهما من بقية السور فلا بد أن يكون عثمان قد اتبع فيه ما علم من رسول الله  صلى الله عليه وسلم
بيد أن هذا الحديث لا ينهض حجة لهؤلاء من جهة سنده ومن جهة متنه أما من جهة سنده فإن الترمذي – وهو أحد رواته – قال فيه أنه حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عوف عن يزيد الفارسي عن أبي عباس ، ويزيد الفارسي هذا قال فيه العلامة ابن حجر العسقلاني إن المحدثين اختلفوا فيه، هل هو يزيد بن هرمز المشهور بأنه ثقة أو غيره ، ثم قال : الصحيح أنه غيره، وسئل عنه يحيى بن معين فلم يعرفه ، انتهى .
أقول: ورجل هذا شأنه مجهول الحال لا يصح أن تكون روايته التي انفرد بما مما يؤخذ بها ويعتمد عليها في ترتيب القرآن المتواتر.
وأما من جهة متنه فإنه معارض بما ثبت في السنة الصحيحة أنه  صلى الله عليه وسلم  كان يتلو القرآن كله في رمضان على جبريل مرة من كل عام، وفي العام الذي توفى فيه عارضه القرآن مرتين، فأين كان يضع هاتين السورتين في قراءته حينما كان يعرض على جبريل ؟ فالتحقيق إذاً أن وضعهما في موضعهما توقيفي وإن فات ذلك عثمان بن عفان أو نسيه ، وأن البسملة لم تكتب في أول براءة لأنها لم تنزل معها كما نزلت مع غيرها من بقية السور ولولا ذلك لعارضه جمهور الصحابة ، وناقشوه فيه عند كتابة القرآن .
المذهب الثالث : أن اتساق السور كاتساق الآيات والحروف ، كان بتعليم النبي  صلى الله عليه وسلم  وقد ذهب إلى ذلك جمهور العلماء ، منهم أبو بكر بن الأنباري ، والكرماني ، والطيبي ، وأبو جعفر النحاس ، وآخرون غيرهم .
قال أبو بكر بن الأنباري : أنزل الله القرآن كله إلى سماء الدنيا ، ثم فرقه في بضع وعشرين سنة، فكانت السور تنزل لأمر يحدث، والآية جواباً لمستخبر ، ويقف جبريل النبي  صلى الله عليه وسلم  على موضع الآية والسورة، فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف ، كله عن النبي  صلى الله عليه وسلم  ، فمن قدم سورة أو أخرها فقد أفسد نظم القرآن
وقال الكرماني في البرهان : ترتيب السور هكذا هو من عند الله في اللوح المحفوظ ، على هذا الترتيب ، وعليه كان  صلى الله عليه وسلم  يعرض على جبريل كل سنة ما كان يجتمع عنده منه، وعرضه عليه في السنة التي توفي فيها مرتين، وكان آخر الآيات نزولا ( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ) بالبقرة ، فأمره جبريل أن يضعها بين آيتي الربا والدين .
وقال الطيبي : أنزل القرآن أولا جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، ثم نزل مفرقاً على حسب المصالح ثم أثبت في المصاحف على التأليف والنظم المثيت في اللوح المحفوظ وقال أبو جعفر النحاس : المختار أن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله  صلى الله عليه وسلم  لحديث واثلة بن الأسقع أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال : " أعطيت مكان التوراة السبع الطوال ، وأعطيت مكان الزبور المئين ، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني وفضلت بالمفصل "21
قال أبو جعفر: فهذا الحديث يدل على أن تأليف القرآن مأخوذ عن النبي  صلى الله عليه وسلم  وأنه مؤلف من ذلك الوقت، وإنما جمع في الصحف على شيء واحد، وفيه أيضاً دليل على أن سورة الأنفال سورة على حده، وليس من براءة.
ومما استدل به الجمهور على مذهبهم أنه ورد في أحاديث كثيرة أن ترتيب بعض السور في عهد رسول الله  صلى الله عليه وسلم  هو عين ترتيبها في المصاحف التي نسخها زيد بأمر عثمان، منها ما رواه البخاري عن ابن مسعود أنه  صلى الله عليه وسلم  قال في بني إسرائيل والكهف ، ومريم ، وطه ، والأنبياء إنهن من العتقاء الأول وهن من تلادي ، والعتاق جمع عتيق ، وهو القديم من كل شيء والمعنى أنهن من قديم ما نزل ، والتالد قديم المال والمتاع، والطارف حديثه وجديده ، والمراد بالتلاد هنا أنهن من أول ما حفظ من القرآن، فذكرها النبي  صلى الله عليه وسلم  نسقاً كما استقر ترتيبها في المصحف .
وروى البخاري أيضاً أنه  صلى الله عليه وسلم  كان إذا أوى إلى فراشه جمع كفيه ثم نفث فيها فقرأ قل هو الله أحد والمعوذتين، فذكرها مرتبة كما هي في الصحف وروى مسلم أنه  صلى الله عليه وسلم  قال : " اقرأوا الزهراوين البقرة وآل عمران " ، فهذه الأحاديث وما شاكلها تدل على أن السور المذكورة فيها كان ترتيبها مسنداً إلى رسول الله  صلى الله عليه وسلم  . فإذا أضفنا إلى ذلك أنه عليه الصلاة والسلام قرأ القرآن كله بمشهد من زيد بن ثابت ، وأن زيداً اختاره أبو بكر لجمع القرآن لقوة الثقة به . وكذلك اختاره عثمان رئيساً لمن نسخوه في المصاحف تيقنا أن هذا الترتيب الذي عمله زيد هو ما تلقاه من رسول الله  صلى الله عليه وسلم  .
وقال ابن وهب ، سمعت مالك بن أنس يقول : إنما ألف القرآن على ما كانوا يسمعونه من رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ، أقول : وإطلاق التأليف يشمل تأليف الآيات والسور جميعاً .
وقد أخرج ابن أشته في كتاب المصاحف من طريق ابن وهب عن سليمان بن بلال قال : سمعت ربيعة يسأل لم قدمت البقرة على آل عمران وقد أنزل قبلها بضع وثمانون سورة مكية، وإنما أنزلتا بالمدينة؟ فقال : قدمتا وألف القرآن على علم من ألفه ، فهذا مما ينتهي إليه، ولا يسأل عنه ، انتهى .
 وقال السيوطي في الأتقان : ومما يدل على أنه " ترتيب السور " توقيفي أن الحواميم رتبت ولاء ، وكذا الطواسين ، ولم ترتب المسبحات ولاء بل فصل بين سورها، وفصل بين طسم الشعراء ، وطسم القصص بطس النمل مع أنها أقصر منهما ، ولو كان الترتيب اجتهادياً لذكرت المسبحات ولاء ، وأخرت طس النمل عن القصص انتهى . وقال بعض الأفاضل : إذا ترتيب السور كلها توقيفي بتعليم الرسول  صلى الله عليه وسلم  كترتيب الآيات وأنه لم توضع سورة في مكانها إلا بأمر منه  صلى الله عليه وسلم  . والدليل على ذلك أن الصحابة أجمعوا على المصحف الذي كتب في عهد عثمان ، ولم يخالف منهم أحد وإجماعهم لا يتم إلا إذا كان الترتيب الذي أجمعوا عليه عن توقيف .
لأنه لو كان اجتهاد لتمسك أصحاب المصاحف المخالفة بمصاحفهم ولكنهم لم يتمسكوا بها ، بل عدلوا عنها وعن ترتيبها وأحرقوها ورجعوا إلى مصاحف عثمان وترتيبها . انتهى ، وسواء رجحنا المذهب الأول، أم قوينا الثاني ، أو جنحنا إلى الثالث فإن هذا الترتيب يجب التزامه في كتابة المصاحف وطبعها لأنه أجمعت عليه الصحابة ، والتابعون وتابعوهم ، والأئمة المجتهدون، وجميع علماء المسلمين في جميع الأعصار والأمصار على اختلاف مذاهبهم ونحلهم ، وتلقته الأمة الإسلامية بالقبول من مبدأ نزول القرآن إلى وقتنا هذا ، فمخالفته تجر على المسلمين ويلات لا قبل لهم بها ، وتفتح عليهم أبواباً من الفتن لا سبيل لهم إلى سدها .
أما ترتيب السور في القراءة فليس بواجب شرعاً ، بل هو مندوب فحسب ، فقد ثبت في السنة الصحيحة أنه  صلى الله عليه وسلم  ترك " في بعض الأوقات " هذا الترتيب في القراءة لبيان عدوم وجوبه فيها ، وجواز مخالفته، ففي الصحيحين أنه  صلى الله عليه وسلم  كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة في الركعة الأولى ألم السجدة ، وفي الركعة الثانية هل أتى على الإنسان ، وكان يقرأ في صلاة العيد سورة ق في الرقعة الأولى ، وسورة اقتربت في الركعة الثانية .
وفي مسلم عن حذيفة أنه  صلى الله عليه وسلم   قرأ في صلاته البقرة ، ثم النساء ، ثم آل عمران ، فقدم النساء على آل عمرن ، وثبت أن عمر بن الخطاب قرأ في صلاة الصبح في الركعة الأولى سورة الكهف ، وفي الثانية سورة يوسف .
قال ابن بطال لا نعلم أحد قال بوجوب ترتيب السور في القراءة، لا داخل الصلاة ولا خارجها، بل يجوز أن يقرأ الكهف قبل البقرة، والحج قبل الكهف مثلا، وأما ما جاء عن السلف من النهي عن قراءة القرآن معكوساً فالمراد به أن يقرأ آيات السورة من آخرها حتى يصل إلى أولها بأن يبدأ بآخر آي في السورة ، وكان جماعة يفعلون ذلك في القصيدة من الشعر مبالغة في حفظها، وتذليلا للسان في سردها، فمنع السلف ذلك في القرآن فهو حرام فيه ، انتهى .
أقول : في كتاب فضائل القرآن لأبي عبيد عن أبي وائل، قيل لابن مسعود ، وإن فلاناً يقرأ القرآن معكوساً ، فقال : ذلك منكوس القلب ، رواه البيهقي، وقال الإمام النووي في التبيان : وأما قراءة السور من آخرها إلى أولها فممنوع منعاً متأكداً ، لأنه يذهب بعض ضروب الإعجاز ، ويزيل حكمة ترتيب الآيات ثم قال : وأما تعليم الصبيان من آخر المصحف إلى أوله فحسن – بأن يبدأ الصبي بسورة الناس ، ثم الفلق ، ثم الإخلاص وهكذا – وليس هذا من باب قراءة القرآن منكوساً ، وإنما جاز هذا للصبيان أو حسن فيه لما فيه من تسهيل الحفظ ، وتيسيره عليهم والله أعلم ، انتهى من التبيان .
وقال المغفور له الشيخ محمد رشيد رضا – بعد أن نقل عن العلماء تحريم قراءة السور منكوسة – ومثله قراءة الختمة منكوسة ، وإنما تقرأ بترتيب المصحف ، لمن يريد قراءته كله ، وفرق بينه وبين قراءة بعضة في الصلاة أو للوعظ ، فإنه يتخير فيه . انتهى .
 
 
( حكمة ترتيب الآيات والسور )
وعدت في صدر هذا البحث بذكر كلمة موجزة في بيان حكمة ترتيب الآيات والسور، ووفاء بهذا الوعد أقول :
إن لهذا الترتيب حكمة إلهية سامية ، وسراً عجيباً من أسرار كتاب الله عز وجل، وذلك أن ترتيبه هكذا بيان وجه آخر لإعجازه ، وإبراز أسلوب أعلى أخرس ألسنة المكابرين وتنسيق نظم أبدع أقر بلاغته وتفوقه، وإغداق أسفله، وإثمار أعلاه – أسبق المعاندين في مضمار الفصاحة والبلاغة ، وأغلبهم في التحدي بنظم الكلام ونثره – فكان ذلك دليلا جديداً ، وحجة ناطقة على أن القرآن العظيم كلام الله تعالى وأنه كتاب مبارك أنزله على عبده ليدبر الناس آياته ، وليتذكر أولو الألباب .
أجل: إن ترتيب القرآن في التلاوة على هذا الوجه آية بينة على إعجازه، وبرهان قاطع على أنه ليس في متناول البشر، ودليل ساطع على أنه قد رقي في البلاغة إلى أسمى درجاتها حتى ولى أعداؤه عن تحديه مدبرين.
ذلك : أن هذا الترتيب الإلهي التوقيفي قد جعل الآيات والسور جميعها متماسكة الأطراف ، جيدة السبك، متصلا بعضها ببعض اتصالا محكم العرا لا انفصام لها حتى صارت الآيات والسور آخذاً بعضها بعجزة بعض أخذاً يفوت المعنى القرآني البليغ بانفكاكه ، وكانت كل آية أو سورة بمنزلة الجزء الذي لا قوام لكله إلا به ، وكان القرآن العظيم جميعه بعد التوقيف جملة واحدة، وصارت كل سورة لا غنى لها عما قبلها ، ولا يستغنى عنها ما بعدها، وكل آية لا يقع موقعها سواها ، ولا ريب أن هذه هي الدرجة العليا للبلاغة التي أخرست البلغاء ، وأدهشت الفصحاء والخطباء من العرب أرباب الألسن ، وملوك الكلام .
وأكتفي بهذا الإيجاز عن ضرب الأمثال لأنها تقتضي الإسهاب الذي يخرج بنا عن المقصود .
 
( تقسيم القرآن بحسب سوره )
قال العلماء : القرآن العزيز أربعة أقسام ، الطول 22 صلى الله عليه وسلم  قال : " أعطيت السبع الطول مكان التوراة ، وأعطيت المئين مكان الإنجيل ، وأعطيت المثاني مكان الزبور ، وفضلا بالمفصل" والمثون ، والثماني، والمفصل ، وقد جاء ذلك في حديث مرفوع أخرجه أبو داود الطلياسي بسنده إلى قتادة، وأخرجه أبو عبيد بسنده عن واثلة بن الأسقع عن النبي
فالسبع الطول أولها البقرة بالإجماع لأنها أطول سورة في القرآن ، واختلف في آخرها – فذهب جماعة إلى أن آخرها براءة، لأنهم كانوا يع\ون الأنفال وبراءة سورة واحدة – ولذلك لم يضعوا بينهما البسملة لأنهما نزلتا جميعاً في مغازي رسول الله  صلى الله عليه وسلم  23 وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير أن السبع الطوال هي : البقرة، آل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، ويونس ، والمئون : ما ولى السبع الطوال ، سميت بذلك لأن كل سورة منها تزيد عن مائة آية أو تقاربها ـ وهي من أول يونس ، أو من أول هود إلى آخر السجدة .
والمثاني : ما ولي المئين ، قال السيوطي : لأنها ثنتها أي كانت بعدها،
 
فهي لها ثوان ، والمئون لها أوائل ، وقال الفراء : هي السور التي آيها أقل من مائة آية لأنها تثني أكثر مما تثني الطول والمئون ، وقال جماعة في جمال الفراء : هي السور التي ثنيت فيها القصص ، انتهى من الإتقان وقد تسمى سور القرآن كلها مثاني ومنه قوله تعالى : ( كتاباً متشابهاً مثاني ) وقوله ( ولقد آتيناك سبعاً من المثاني ) ، وإنما سمي القرآن كله مثاني لأن الأنباء والقصص تثنى فيه ، ويقال إن المثاني في قوله تعالى ( ولقد آتيناك سبعاً من المثاني ) هي سورة الفاتحة سميت بذلك لأنها تثنى وتكرر في كل صلاة ، والمثاني من أول الأحزاب إلى أول " ق " أو أول الحجرات .
والمفصل ما يلي المثاني من قصار السور ، سمى مفصلا لكثرة الفصول التي بين السور بالبسملة ، وقيل لقلة المنسوخ فيه ، ولهذا يسمى أيضاً المحكم ، فقج روي البخاري عن سعيد بن جبير أنه قال : إن الذي تدعونه المفصل هو المحكم ، ولا خلاف بين العلماء أن آخره سورة الناس، واختلف في أوله على أقوال كثيرة ، فقيل أوله سورة " ق " ، قال الزركشي : وهو الصحيح عند أهل الأثر . انتهى ، وصحيح الإمام النووي أنه أوله سورة الحجرات ، وقيل غير ذلك .
والمفصل أقسام ثلاثة : طوال ، وأوساط ، وقصار .
فطواله من أول " ق " ، أو الحجرات إلى سورة النبأ ، وأوساطه من أول النبأ إلى سورة والضحى، وقصاره من أول والضحى إلى آخر القرآن الكريم ، وهذا أحسن ما قيل فيه .
لا أجد عبارة تفي ببيان الحكمة في جعل القرآن سوراً ، وتقسيم السور إلى طوال ، وأوساط ، وقصار – أحكم ولا أضبط من عبارة الإمام بدر الدين الزركشي في البرهان ، وعبارة العلامة الزمخشري في الكشاف ، فها كهما :
عبارة الزركشي : فإن قبل : فما الحكمة في تقطيع القرآن سوراً ؟ قلت : هي الحكمة في تقطيع السور آيات معدودات ، لكل آية حد ومطلع ، حتى تكون كل سورة ، بل كل آية فنا مستقلا ، وقرآناً معتبراً ، وفي تسوير القرآن سوراً تحقيق لكون السورة بمجردها معجزة وآية من آيات الله تعالى، وسورت السور طوالا ، وقصاراً ، وأوساطاً تنبيهاً على أن الطول ليس من شرط الإعجاز ، فهذه سورة الكوثر ثلاث آيات وهي معجزة إعجاز سورة البقرة، ثم ظهرت لذلك حكمة في التعليم ، وتدريج الأطفال من السور القصار إلى الأوساط ، ثم إلى الطوال ، تيسيراً من الله تهالى على عباده في حفظ كتابه ومدارسته ، فنرى الطفل يفرح بإتمام السورة فرح من يحصل على شيء نفيس، وكذلك المطيل في التلاوة يرتاح عند ختم كل سورة ارتياح المسافر إلى قطع المراحل المسماة مرحلة بعد مرحلة أخرى إلى أن كل سورة نمط مستقل ، فسورة يوسف تترجم عن قصته ، وسورة براءة تترجم عن أحوال المنافقين وكامن أسرارهم إلى غير ذلك . انتهى بشيء من التصرف .
عبارة الزمخشري : من فوائد تفصيل القرآن وتقطيعه سوراً كثيرة أن الجنس إذا انطوت تحته أنواه وأصناف كان أحسن وأفخم من أن يكون باباً واحداً . ومنها أن القارئ إذا ختم سورة أو باباً من الكتاب ثم أخذ في آخر كان أنشط له ، وأبعث على التحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله، ومثله المسافر إذا قطع ميلا أو فرسخاً نفس ذلك منه ونشطه للمسير ، ومن ثمة جزئ القرآن أجزاءاً وأخماساً ، ومنها أن الحافظ إذا حذق السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله تعالى طائفة مستقلة فيعظم عنده ما حفظه، ومنه حديث أنس : كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جل – صار جليلا – فينا " ومن ثم كانت القراءة في الصلاة بسورة أفضل .
ومنها أن التفصيل يسبب تلاحق الأشكال والنظائر وملائمة بعضها لبعض ، وبذلك تتلاحق المعاني . . إلى غير ذلك من الفوائد . انتهى .
 
أسماء السور توقيفية
مذهب جماهير العلماء من السلف والخلف على أن أسماء جميع سور القرآن توقيفية ، فقد وضع النبي  صلى الله عليه وسلم  لكل سورة اسماً خاصاً بها . وهاك بعض ما يدل على ذلك من الأحاديث والآثار .
قال  صلى الله عليه وسلم  : " من قرأ هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه " ، أخرجه الشيخان ، والآيتان من قوله تعالى : ( آمن الرسول ) إلى آخر السورة ، وقال  صلى الله عليه وسلم  : " اقرءوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان تحاجان عن أصحابهما " الحديث – أخرجه مسلم .
وقال  صلى الله عليه وسلم  : " من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال " – رواه مسلم .
وعن عقبة بن عامر قال : قلت يا رسول الله - أفضلت سورة الحج بإن فيها سجدتين ؟ قال : " نعم ، ومن لم يسجدها فلا يقرأها " – أخرجه الترمذي وأبو داود . 
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان النبي  صلى الله عليه وسلم  لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل – رواه الترمذي .
وقال  صلى الله عليه وسلم  : " من قرأ الدخان في ليلة في ليلة الجمعة غفر له " – أخرجه الترمذي .
وقال  صلى الله عليه وسلم  : " من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً " – ذكره ابن وهب .
وقال  صلى الله عليه وسلم  : " من قرأ خواتيم سورة الحشر في ليل أو نهار فقبضه الله في تلك الليلة أو في ذلك اليوم فقد أوجب الله له الجنة " ، ذكره القرطبي في التذكار .
واعلم أن السورة قد يكون لها اسم واحد ، وقد يكون لها اسمان أو أكثر ، فإن كان لها اسم واحد فإن هذا الاسم يكون توقيفياً قطعاً كسورتي الأنعام والكهف، إن كان لها أكثر من اسم فإن بعض هذه الأسماء يكون توقيفياً ، وبعضها يكون من وضع بعض الصحابة ، أو التابعين .
وهاك السور التي سميت بأكثر من اسم :
( 1 ) الفاتحة : سميت بأسماء متعددة – بعضها توقيفي ، وبعضها ليس كذلك ، فأما الأسماء التوقيفية فهي : فاتحة الكتاب ، فاتحة القرآن ، أم الكتاب ، أم القرآن ، السبع المثاني ، القرآن العظيم ، الصلاة ، الكنز ، الرقية ، الشفاء ، الشافية ، وقد تكفل الجلال السيوطي في الإتقان بايراد الأحاديث الدالة على تسميتها بهذه الأسماء ، وبيان علة التسمية بكل اسم منها فارجع إليه إذا أردت .
وأما الأسماء الغير التوقيفية فهي : الوافية ، الكافية ، الأساس ، النور ، سورة الحمد ، سورة السؤال ، سورة تعليم المسألة، سورة المناجاة ، سورة التفويض ، وقد بين السيوطي أيضاً علة تسميتها بهذه الأسماء .
( 2 ) البقرة : تسمى أيضاً سنام القرآن ، والزهراء ، والأسماء الثلاثة توقيفية .
( 3 ) آل عمران : تسمى الزهراء أيضاً والاسمان توقيفيان .
( 4 ) المائدة : تسمى أيضاً العقود ، والمنقذة ، والاسم الأول والثالث توقيفيان بخلاف الثاني .
( 5 ) الأنفال : وتسمى سورة بدر ، والأول توقيفي والثاني ليس كذلك .
( 6 ) براءة : وتسمى أيضاً بهذه الأسماء : التوبة ، الفاضحة ، سورة العذاب ، المقشقشة ، أي المبرئة من النفاق ، المنقرة لأنها نقرت عما في قلوب المنافقين ، البحوث ، بفتح الباء لبحثها عما في قلوب المنافقينـ الحافرة ، لحفرها عن قلوبهم ، المثيرة ، لأنها أثارت مثالبهم ، وكشفت عوراتهم ، المبعثرة ، لنحو ما تقدم ، المخزية ، لإيقاعهم في الخزي والعار ، والاسم الأول هو التوقيفي ، وهو براءة ، وما عداه من تسمية الصحابة فمن بعدهم .
( 7 ) النحل : تسمى سورة النعم أيضاً لما فيها من تعداد نعمه تعالى على عباده وهذا الاسم غير توقيفي .
( 8 ) الإسراء : تسمى أيضاً سورة سبحان ، وسورة بني إسرائيل ، والأول والثالث توقيفيان بخلاف الثاني .
( 9 ) طه : تسمى أيضاً سورة الكليم ، والأول هو التوقيفي .
( 10 ) الشعراء : تسمى أيضاً سورة الجامعة، والأول هو التوقيفي .
( 11 ) النمل : تسمى أيضاً سورة سليمان ، والأول هو التوقيفي .
( 12 ) السجدة : تسمى أيضاً سورة المضاجع ، والأول هو التوقيفي .
( 13 ) فاطر : تسمى أيضاً سورة الملائكة ، والأول هو التوقيفي .
( 14 ) يس : تسمى أيضاً قلب القرآن ، هكذا سماها رسول الله  صلى الله عليه وسلم  فيكون الاسمان توقيفيان .
( 15 ) الزمر : تسمى أيضاً سورة الغرف ، والأول هو التوقيفي بخلاف الثاني .
( 16 ) غافر : تسمى أيضاً سورة الطول ، وسورة المؤمن ، والثاني والثالث ليسا توقيفين ,
( 17 ) فصلت : تسمى أيضاً سورة السجدة ، وسورة المصابيح ، والثاني والثالث ليسا توقيفين ,
( 18 ) الجاثية : تسمى أيضاً سورة الشريعة ، وسورة الدهر ، والثاني والثالث ليس توقيفين .
( 19 ) محمد : تسمى أيضاً سورة القتال، والثاني ليس توقيفياً ,
( 20 ) ق : تسمى ايضاً سورة الباسقات ، والثاني ليس توقيفيان .
( 21 ) اقتربت : تسمى أيضاً سورة القمر ، والثاني ليس توقيفياً .
( 22 ) الرحمن / تسمى أيضاً عروس القرآن وفي ذلك حديث مرفوع فيكون الاسمان توقيفيان .
( 23 ) المجادلة : تسمى أيضاً سورة الظهار ، والأول هو التوقيفي .
( 24 ) الحشر : تسمى سورة بني النضير ، والأول هو التوقيفي .
( 25 ) الممتحنة : تسمى أيضاً سورة الامتحان ، وسورة المرأة ، والثاني والثالث ليسا توقيفين .
( 26 ) سورة الصف : تسمى أيضاً الحواريين ، والأول هو التوقيفي .
( 27 ) الطلاق : تسمى أيضاً سورة النساء القصرى ، والأول هو التوقيفي .
( 28 ) تبارك : تسمى أيضاً سورة الملك ، والمانعة ، والمنجية ، والمجادلة، والواقية ، وهذه الأسماء كلها توقيفية أورد أحاديثها السيوطي في الإتقان .
( 29 ) سأل : تسمى أيضاً المعارج ، والأول هو التوقيفي .
( 30 ) عم : تسمى أيضاً النبأ ، التساول ، المعصرات ، والظاهر أن الأول والثاني هما التوقيفيان فقط .
( 31 ) لم يكن : تسمى أيضاً سورة أهل الكتاب ، البينة ، القيامة ، البرية ، الأنفكاك ، والأول هو التوقيفي .
( 32 ) أرأيت : تسمى أيضاً سورة الدين ، سورة الماعون ، والظاهر أن الأول والثالث توقيفيان ,
( 33 )الكافرون : تسمى أيضاً المقشقشة ، وسورة العبادة ، والأول هو التوقيفي .
( 34 ) النصر : تسمى أيضاَ سورة التوديع لما فيها من الإشارة إلى توديع النبي  صلى الله عليه وسلم  هذه الحياة .
( 35 ) تبت : تسمى أيضاً سورة المسد ، والأول هو التوقيفي .
( 36 ) الإخلاص : تسمى أيضاً الأساس لتضمنها توحيد الله تعالى وهو أساس الشريعة والأول هو التوقيفي .
( 37 ، 38 ) الفلق والناس : وتسميان أيضاً المعوذتان بكسر الواو ، وهو غير توقيفي ، ما عدا ذلك من باقي السور فلكل سورة منها اسم واحد ، وهو توقيفي .
قال السيوطي في التحبير : وقد يوضع اسم واحد لجملة من السور كالزهراوين للبقرة وآل عمران ، والسبع الطوال للبقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس كما روي عن سعيد بن جبير ومجاهد، والمفصل ، والأصح أنه من الحجرات إلى آخر القرآن ، وسمي بذلك لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة ، والمعوذات للإخلاص والفلق والناس ، انتهى .
 
حكم البسملة في أوائل السور
اتفق العلماء على أن وضع البسملة في أول كل سورة – سوى براءة – توقيفي بأمره  صلى الله عليه وسلم  .
وكذلك اتفقوا على وجوب إثباتها خطاً في المصحف في أوائل السور إلا في أول براءة، لأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على إثباتها في جميع المصاحف العثمانية في أوائل السور سوى أول براءة.
واختلفوا بعد ذلك في كونها من القرآن، أو ليست من القرآن على مذاهب متعددة وأشهر هذه المذاهب أربعة.
المذهب الأول: أن البسملة آية كاملة في أول الفاتحة، وأول كل سورة من سور القرآن الكريم سوى براءة، وهذا مذهب فقهاء مكة والكوفة وقرائهما وإليه ذهب عبدالله بن المبارك والإمام الشافعي، غير أن الإمام الشافعي جزم بأنها آية كاملة في أول الفاتحة، وأما في أول غيرها فروى عنه فيها ثلاثة أقوال ، الأول أنها بعض آية ، والثاني أنها ليست بقرآن ، الثالث أنها آية كاملة وهذا هو الصحيح من مذهبه .
المذهب الثاني: أنها آية فذة وضعت في أول كل سورة من سور القرآن الفاتحة وغيرها سوى براءة، ولا تعتبر ضمن آيات السور التي وضعت في أولها بل هي قرآن مستقل بمثابة سورة قصيرة، وممن ذهب إلى هذا أبو بكر الرازي وغيره من الحنفية ، وحكى هذا المذهب عن داود الظاهري وأصحابه وهو رواية عن أحمد .
المذهب الثالث: أنها آية من الفاتحة فقط ، وليست آية ولا قرآناً في غيرها من السور وهذا مذهب إسحاق وأبي عبيد والزهري وسيفان الثوري، وبعض أهل مكة والكوفة وأكثر أهل العراق ، وهو رواية عن أحمد وروى قولا للشافعي كما سبق .
المذهب الرابع: أنها ليست قرآناً في فواتح السور كلها لا في الفاتحة ولا في غيرها ، وإنما أتي بها للتبرك، أو للفصل بين السور، وهذا مذهب الأئمة مالك وأبي حنيفة والأوزاعي وهو رواية عن أحمد ، وهام أدلة كل مذهب :
استدل أصحاب المذهب الأول بالآثار الآتية :
عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قرأ بسم الله الرحمن الرحيم في أول الفاتحة في الصلاة وعدها آية .
وعن ابن عباس في قوله تعالى : ( ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم ) ثم قال : هي فاتحة الكتاب، قال فأين السابعة ؟ قال بسم الله الرحمن الرحيم، روى الحديثين ابن خزيمة والبيهقي وغيرهما.
      وعن أنس رضي الله عنه قال: بينا رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسماً فقلنا ما أضحكك يا رسول الله؟ قال:" أنزلت علي سورة فقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم* إنا أعطيناك الكوثر* فصل لربك وانحر* إن شانئك هو الأبتر" رواه مسلم.
      وعن ابن عباس رضي الله عنهما كان النبي  صلى الله عليه وسلم  لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم، رواه الحاكم في المستدرك وقال حديث صحيح على شرط الشيخين ورواه أبو داود وغيره.
      وعن ابن عباس أن النبي  صلى الله عليه وسلم  إذا جاءه جبريل عليه السلام فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم علم أنها سورة، وفي رواية عنه أيضاً كان النبي  صلى الله عليه وسلم  لا يعلم ختم السورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم، وفي رواية كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السورة حتى ينزل بسم الله الرحمن الرحيم، أخرج الأحاديث الثلاثة الحاكم في المستدرك .
      وفي سنن البيهقي عن على وأبي هريرة رضي الله عنهما أن الفاتحة هي السبع المثاني وأن البسملة هي الآية السابعة.
      وفي سنن الدارقطني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  :" إذا قرأتم الحمد لله فاقرأوا بسم الله الرحمن الرحيم، إنها أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني، وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها" .
      قال الدارقطني رجال إسناده كلهم ثقات قال الإمام النووي في المجموع فهذه الأحاديث معاضدة محصلة للظن القوي بكون البسملة قرآناً حيث كان المطلوب هنا هو الظن لا القطع ، انتهى.
      وروى الشافعي بسنده عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان لا يدع بسم الله الرحمن الرحيم لأم القرآن والسورة التي بعدها وكان يقول: لما كتب في المصحف لماذا لم تقرأ ؟
      واستدلوا أيضاً بأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على إثباتها في جميع المصاحف في أوائل السور سوى براءة، وكتبوها بخط المصحف في هيئة كتابته، وفي مداده، ولم يميزوا بين كتابتها وكتابة المصحف لا في المداد، ولا في كيفية الكتابة، ولا في غير ذلك بل جعلوها موافقة لصور المكتوب قرأناً، فلو لم تكن قرآناً لم أجازوا إثباتها بخط المصحف من غير تمييز، لأن ذلك يحمل على اعتقاد أنها قرآن، فحينئذ يكونون مغررين بالمسلمين، حاملين لهم على اعتقاد ما ليس بقرآن قرآناً، وهذا مما لا يجوز اعتقاده في الصحابة .
      قال الحافظ البيهقي: أحسن ما يحتج به أصحابنا كتابتها في المصاحف التي قصدوا بكتابتها تجريد القرآن عن غيره ، ولذلك لم يكتبوا فيها أسماء السور مع أنها توقيفية خوفاً من اختلاطها بالقرآن، وتحاشياً من أن يزيدوا فيه شيئاً، أو ينقصوا منه شيئاً، ومن أجل ذلك أيضاً لم يكتبوا في المصاحف لفظ الاستعاذة، ولا كلمة آمين، مع أن كلا منهما مندوب إليه شرعاً، فلو لم تكن البسملة في أوائل السور من القرآن لما كتبوا في المصاحف، ولكان حكمها حكم الاستعاذة وحكم لفظ آمين، فكيف يدور بخلد مسلم بعد ذلك أن الصحابة كتبوا في المصحف مائة وثلاث عشرة آية ليست من القرآن ؟
      وقال الإمام الغزالي في المستصفى: أظهر الأدلة على أن البسملة من القرآن كتابتها بحفظ القرآن، ثم قال : ونحن نقنع في هذه المسألة بالظن ولا شك في حصوله . انتهى .
وعلى هذا المذهب : فالبسملة في أول الفاتحة وأول غيرها من السور تكون من القرآن، ولكن هل هي قرآن على سبيل القطع، أم على سبيل الحكم، إذ لا خلاف أن نافيها لا يكفر، ولو كانت قرآناً قطعاً لكفر كمن ينفي غيرها من القرآن، وعلى هذا يقبل في إثباتها خبر الواحد كسائر الأحكام، ومعنى كونها قرآناً لا قطعاً أنه لا تصح الصلاة إلا بقراءتها في أول الفاتحة، ولا يعتبر من قرأ سورة أنه قرأها كاملة إلا إذا ابتدأها بالبسملة .
 
 
أدلة المذهب الثاني :
استدل أصحاب هذا المذهب بما استدل به أصحاب المذهب الأول من الأدلة السالفة الذكر ، لأن المذهبين يشتركان في أن البسملة من القرآن وإن كان يفترقان في أنها – على المذهب الأول – تعتبر ضمن آيات السورة وعلى المذهب الثاني تعتبر آية واحدة مستقلة غير معدودة من آيات السورة التي هي فيها بل هي قرآن بمنزلة سورة قصيرة .
فنظراً إلى اشتراك المذهبين في أن البسملة من القرآن كانت أدلة المذهب الأول هي أدلة المذهب الثاني، واستدلوا على أن البسملة لا تعد من آيات السورة التي بدأت بها بما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قال: ". . . إن من القرآن سورة ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي سورة تبارك الذي بيده الملك " ، أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن ، وقد أجمع علماء العدد على أن هذه السورة ثلاثون آية من غير البسملة .
ووجه هذا الاستدلال أن الحديث دل صراحة على أن سورة الملك ثلاثون آية، وإجماع علماء العدد على أن البسملة خارجة من هذا العدد، وقد قامت الأدلة السابقة على أن البسملة من القرآن فحينئذ تكون من القرآن، ولا تكون ضمن آيات السورة التي صدرت بها بل تكون قرآناً مستقلا بمنزلة سورة قصيرة وهو المطلوب، وبذلك يجمع بين الأدلة ، ويوفق بين البراهين .
 
أدلة المذهب الثالث :
استدل أصحاب هذا المذهب بالأحاديث الدالة على أن الفاتحة سبع آيات ، وأن بسم الله الرحمن الرحيم آية منها، ومن هذه الأحاديث ما رواه أبو هريرة عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  أنه قال : " إذا قرأتم الحمد لله فاقرأوا بسم الله الرحمن الرحيم، فإنها أن القرآن ، وأم الكتاب ، والسبع المثاني ، وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها " أخرجه الدارقطني في سنته وقد تقدم .
واستدلوا على أن البسملة ليست آية ولا من القرآن في أول آية سورة سوى الفاتحة بالأدلة التي استند إليها أصحاب المذهب الرابع وستأتيك قريباً إن شاء الله تعالى .
أدلة المذهب الرابع :
استدل أصحاب هذا المذهب بحديث ابي هريرة رضي الله عنه عن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال : يقول الله عز وجل : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله تعالى حمدني عبدي ، وإذا قال الرحمن الرحيم قال الله تعالى أثنى علي عبدي ، وإذا قال مالك يوم الدين قال الله تعالى مجدني عبدي ، وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ، فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين . . قال الله تعالى هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ؟ رواه مسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم . قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث :
قال العلماء : المراد بالصلاة الفاتحة سميت بذلك لأن الصلاة لا تصلح إلا بها . والمراد قسمتها من جهة المعنى لأن نصفها الأول تمجيد لله تعالى وتمجيد وثناء عليه وتفويض إليه ، والنصف الثاني سؤال وطلب وتضرع وافتقار ، وقوله في الحديث حمدني وأثنى على ومجدني الحمد الثناء بجميل الفعال، والتمجيد بصفات الجلال، والثناء مشتمل على الأمرين، ولهذا جاء جواباً للرحمن الرحيم لاشتمال اللفظين على الصفات الذاتية والفعلية، فإذا قال إياك نعبد الخ ، قال القرطبي : إنما قال الله تعالى هذا لأن في ذلك تذلل العبد لله، وطلبه الاستعانة منه وذلك يتضمن تعظيم الله تعالى وقدرته على ما طلب منه . وقوله فإذا قال : اهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة إنما كان هذا للعبد لأنه سؤال يعود نفعه على العبد وفيه دليل على أن اهدنا وما بعده ثلاث آيات لا آيتان . وفي المسألة خلاف مبني على أن البسملة من الفاتحة أم لا والحديث يدل على أنها ليست من الفاتحة لأن الفاتحة سبع آيات بالإجماع:
فثلاث في أولها ثناء أولها الحمد لله ،وثلاث دعاء ، أولها اهدنا الصراط المستقيم ، والرابعة متوسطة وهي إياك نعبد وإياك نستعين ولم يذكر البسملة في الحديث ولو كان البسملة من السورة لذكرت ثم قال النووي وهذا الحديث من أوضح ما احتجوا به . انتهى .
وقال القرطبي في الجامع : فجعل سبحانه الآيات الأول لنفسه ، واختص بها ، ثم جعل الآية الرابعة بينه وبين عبده ، ثم ثلاث آيات تتمة سبع آيات، ومما يدل على أنها ثلاث قوله هؤلاء لعبدي ولم يقل هاتان، فهذا يدل على أن أنعمت عليهم آية ، فثبت بهذه القسمة التي قسمها الله تعالى أن البسملة ليست آية منها . وكذا عد أهل المدينة والبصرة والشام عدوا أنعمت عليهم آية، ولم يعدوا البسملة . انتهى .
وكذلك استدلوا بالأحاديث الآتية : " إن من القرآن سورة ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي سورة الملك " – وقد تقدم – وقد اتفق العلماء على أن هذه السورة ثلاثون آية سوى البسملة ، وحديث عائشة في مبدأ الوحي أن جبريل أتى رسول الله  صلى الله عليه وسلم  فقال له : اقرأ باسم ربك الذي خلق – إلى علم الإنسان ما لم يعلم ، ولم يذكر البسملة، وروي هذا الحديث الشيخان – وعن أنس رضي الله عنه قال : صليت خلف رسول الله  صلى الله عليه وسلم  وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم – رواه مسلم ، وفي رواية له فكانوا يفتتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون البسملة في أول القراءة ولا في آخرها .
وأيضاً قالوا : إن الصحابة أجمعوا على عدد الآيات في سورة كثيرة منها سورة الملك، وسورة الكوثر ، وسورة الإخلاص ، أجمعوا على أن الملك ثلاثون آية ، والكوثر ثلاث آيات ، والإخلاص أربع آيات ، فلو كانت البسملة آية من السور المذكورة لكانت الملك إحدى وثلاثون آية ، والكوثر أربع آيات ، والإخلاص خمساً . وهذا خلاف الإجماع .
وكذلك قالوا: إن القرآن لا يثبت بأخبار الآحاد ، ولا بالظن ، وإنما طريق ثبوته التواتر القطعي الذي لا يختلف فيه. والبسملة لم يتواتر ثبوتها بدليل اختلاف العلماء فيها، قال ابن العربي: وحسبك دليلا على أن البسملة ليست من القرآن اختلاف الناس فيها والقرآن لا يختلف الناس فيه.
ثم قالوا: لو كانت من القرآن لكفر جاحدها، وقد أجمعت الأمة على أنه لا يكفر من أثبتها ولا من نفاها لاختلاف العلماء فيها، بخلاف ما لو نفي حرفاً مجمعاً عليه، أو اثبت ما لم يقل به أحد فإنه يكفر بالإجماع.
وأيضاً قالوا: إن أهل العدد مجمعون على عدم عددها آية من غير الفاتحة ومختلفون في عدها في الفاتحة.
وأخيرا قالوا : إن البسملة ليست من القرآن أصلا ، وإنما أتى بها للفصل بين السور بعضها من بعض ، أو للتبرك والدليل على أنها للفصل بين السور ما أخرجه أبو داود عن كثير من الصحابة " كنا لا نعرف فصل السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم "
وخلاصة كل ما تقدم أن المذهب الأول يجعل البسملة آية من كل سورة سوى براءة,
وإن المذهب الثاني يجعلها آية من القرآن مستقلة وليست من جملة آيات السورة .
وأن المذهب الثالث يجعلها آية من القرآن من سورة الفاتحة ولا يجعلها من القرآن في باقي السور.
وأن المذهب الرابع لا يجعلها من القرآن، أصلا لا في الفاتحة ولا في غيرها.
وأن المذهب الثاني يشارك الأول في جعل البسملة من القرآن ، ويخالفه في أنها آية من كل سورة ، وأن المذهب الثالث يشارك الأول في جعل البسملة آية من الفاتحة ويخالفه في باقي السور، وأن المذهب الرابع يخالف الأول مخالفة تامة حيث إنه لا يجعل البسملة من القرآن أصلا ، وقد مرت بك أدلة كل مذهب .
وقد رجح العلماء المذهب الأول لسطوع براهينه ، ونصوع حججه وتصدوا لتفنيد أدلة المذاهب الثلاثة والإجابة عنها فيما يلي :
أما استدلالهم بحديث قسمت الصلاة. . الخ فقد تكفل الإمام النووي بالجواب عنه في المجموع شرح المهذب حيث يقول : " وأما الجواب عن حديث قسمت الصلاة الخ فمن أوجه ، أحدهما أن البسملة إنما لم تذكر لإدراجها في الآيتين بعدها الثاني أن يقال : معناه فإذا انتهى العبد في قراءته إلى الحمد لله رب العالمين ، وحينئذ تكون البسملة داخلة ، الثالث لعلة قال قبل نزول البسملة فإن النبي  صلى الله عليه وسلم  كان تنزل عليه الآية فيقول ضعوها في سورة كذا، ثم قال النووي فإن قيل : قد أجمعت الأمة على أن الفاتحة سبع آيات واختلف في السابعة فمن جعل البسملة آية قال : السابعة ( صراط الذين ) إلى آخر السورة ، ومن نفاها قال ( صراط الذين أنعمت عليهم ) سادسة و ( غير المغضوب عليهم ) إلى آخر هي السابعة، قالوا : ويترجح هذا لأن به تحصل حقيقة التصنيف ، فيكون لله تعالى ثلاث آيات ونصف وللعبد مثلها، وموضع التنصيف هو ( إياك نعبد وإياك نستعين ) فلو عدت البسملة آية ولم يعد غير المغضوب عليهم صار لله تعالى أربع آيات ونصف وللعبد آيتان ونصف وهذا خلاف تصريح الحديث بالتصنيف. فالجواب من أوجه أحدها منع إرادة حقيقية التنصيف بل هو من باب قول الشاعر ,
إذا مت كان الناس نصفان شامت           وآخر منن بالذي كنت أصنع
فيكون المراد أن الفاتحة قسمان ، فأولها لله تعالى ، وآخرها للعبد .
الثاني المراد بالتنصيف قسمان ، الثناء والدعاء من غير اعتبار لعد الآيات ، الثالث أن الفاتحة إذا قسمت باعتبار الحروف والكلمات والبسملة منها كان التنصيف في شطريها أقرب مما إذا قسمت بحذف البسملة ، فلعل المراد تقسيمها باعتبار الحروف ، ثم قال الإمام النووي، فإن قيل : يترجح جعل الآية السابعة ( غير المغضوب عليهم ) لقوله فإذا قال العبد : اهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة ، قال فهؤلاء لعبدي فلفظة هؤلاء جمع يقتضي ثلاث آيات ، على قول الإمام الشافعي ليس للعبد إلا آيتان ، فالجواب إن أكثر الرواة رووه فهذا لعبدي وهو الذي رواه مسلم في صحيحه وإن كانت لفظه هؤلاء ثابتة في سنن أبي داود والنسائي، وعن هذه الرواية تكون الإشارة هؤلاء إلى الكلمات أو إلى الحروف أو إلى آيتين ونصف من قوله تعالى ( وإياك نستعين ) إلى آخر السورة . انتهى كلام النووي .
وأما استدلالهم بحديث سورة الملك فالجواب عنه أن المراد بيان عدد ما هو مختص بهذه السورة من الآيات ، وأما البسملة فهي كالشيء المشترك بين جميع السور ، فيكون المعنى أن سورة الملك ثلاثون آية سوى البسملة، ويؤيد هذا التأويل أن الحديث من رواية أبي هريرة وهو ممن يرى أن البسملة آية من كل سورة فهو أعلم بتأويله .
وأما حديث عائشة عن بدء الوحي فالجواب عنه أن البسملة نزلت بعد ذلك كنظائر لها من الآيات المتأخرة في النزول عن السورة التي هي فيها.
وأما حديث أنس صليت خلف رسول الله  صلى الله عليه وسلم  - اله فالجواب عنه أن قوله : فلم أسمع أحداً منهم الخ ليس فيه إلا نفي السماع وهو لا يستلزم نفي الإتيان بها مطلقاً لاحتمال الإتيان بها سراً ، وقوله في الرواية الأخرى فكانوا يفتتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون البسملة في أول القراءة ولا في آخرها –- معناه أنهم لا يذكرون البسملة جهراً في أول الفاتحة ولا في آخرها والمراد بآخرها أول السورة التي تقرأ بعد الفاتحة ، فيكون المراد من نفي سماع البسملة في الرواية الأخرى، ونفي ذكرها في الرواية الثانية عدم الجهر بها ، والدليل على هذا ما ورد في رواية أخرى عن أنس أيضاً " كانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم " ، وهذه الرواية تدل بمنطوقها على عدم الجهر بالبسملة ، وبمفهومها . وفي رواية أخرى كانوا يسرون ببسم الله الرحمن الرحيم وهذه الرواية تدل بمنطوقها على الإتيان بها سراً .
فحينئذ يتعين حمل حديث أنس على ذكرنا جمعاً بين الروايات ، وتوفيقاً بين الآثار ، وبهذا الجمع تتلاقي الآثار ، وبه يخرج من الخلاف في قراءة البسملة ، وأما قولهم : إن الصحابة أجمعوا على عدد الآيات في سور كثيرة الخ فالجواب عنه أن المراد عدد آيات السور بقطع النظر عن البسملة باعتبار اشتراك جميع السور فيها لأنها توضع في صدر كل سورة والمقصود بيان ما اشتملت عليه نفس السورة من الآيات، فلذلك كانت سورة الملك ثلاثين آية ، وسورة الكوثر ثلاث آيات ، وسورة الإخلاص أربع آيات .
وأما قولهم : لا يثبت القرآن إلا بطريق التواتر الخ ما قالوا ، فالجواب عنه من ثلاثة أوجه :
الأول : أن إثباتها في المصحف في معنى التواتر وقد صرح عضد الدين بأن الرسم دليل علمي . الثاني : أن التواتر إنما يشترط فيما يثبت قرآناً على سبيل القطع ، أما ما يثبت قرآناً على سبيل الحكم فيكفي فيه الظن ، وقد سبق بيان هذا أول المبحث والبسملة قرآن على سبيل الحكم على الصحيح . الثالث : أن عدم تواترها ممنوع لأن بعض القراء السبعة أثبتها ، ولا شك أن جميع القراءات السبعة متواترة فيلزم تواترها، واختلاف القراء فيها لا يستلزم عدم تواترها فكثيراً ما اختلف القراء في حروف وهي متواترة بالإجماع .
وأما قولهم : لو كانت قرآناً لكفر جاحدها فجوابه من وجهين :
الأول : أن يقلب عليهم فيقال لو لم تكن قرآناً لكفر مثبتها والتالي باطل فبطل المقدم .
الثاني : أن الكفر لا يكون بالظنيات ، بل بالقطعيات ، والبسملة ظنية .
وأما قولهم: إن أهل العدد ليسوا كل الأمة حتى يكون إجماعهم حجة، بل هم طائفة من العلماء اصطلحوا على هذا، إما لأن مذهبهم أن البسملة ليست من القرآن الكريم، وإما لاعتقادهم أنها بعض آية، وأنها مع أول السورة آية كاملة.
الثاني: أنه معارض بما ثبت عن ابن عباس وغيره، " من تركها فقد ترك مائة وثلاث عشر آية " لأن براءة لم تنزل فيها البسملة .
وأما قولهم: إن البسملة ليست من القرآن، وإنما أتى بها للفصل فجوابه من ثلاثة أوجه:
الأول: أن هذا فيه تغرير بالمسلمين - وإيهام ما ليس بقرآن أنه قرآن، وذلك لا يجوز لمجرد الفصل.
الثاني: أنه لو كان مجيئها للفصل لكتبت بين الأنفال وبراءة، ولما حسن كتابتها في أول الفاتحة.
الثالث : أن الفصل كان يتأتى بوضع تراجم السور، وذكر أسمائها في أولها والحديث الذي أوردوه ليس حجة لهم بل عليهم ، لأن قوله  صلى الله عليه وسلم  حتى تنزل أخبار بنزول البسملة ، وهذه صفة جميع آيات القرآن ، فالتعبير بنزولها يستلزم قرآنيتها ، ومعنى الحديث : كنا لا نعرف انقضاء السور ، والشروع في سورة أخرى إلا بالبسملة ، فإنها لا تنزل إلا في أوائل السور .
وقول بعضهم: إنها أتى بها للتبرك – جوابه من أربعة أوجه:
الأول: أن في الإتيان بها لمجرد التبرك تلبيساً على المسلمين، لما فيه من إيهامهم أنها من القرآن وما هي من القرآن، وذلك لا يجوز.
الثاني: أنه لو صح ذلك لكتبت بين الأنفال وبراءة.
الثالث : أن الصحابة رضي الله عنهم حين كتبوا المصاحف العثمانية كانوا حريصين الحرص كل الحرص على تجريدها مما ليس بقرآن، ولهذا لم يكتبوا فيها التعوذ ، ولا لفظ " آمين " عقب الفاتحة ، مع أن كلا الأمرين مأمور به وإن كان الأمر للندب ، فلو لم تكن البسملة من القرآن لما اجترءوا على كتابتها في المصاحف ، مهما كان الباعث عن ذلك .
الرابع: أنه لو كان الإتيان بها للتبرك لاكتفي بها في أول المصحف، أو لكتبت في أول براءة، ولما كتبت في السور التي بدأت بذكر الله تعالى كالفاتحة، والأنعام، والكهف، وسبأ، وفاطر، إذ ليس ثم حاجة إلى كتابتها حينئذ.
واعلم أن إجماع العلماء عل أن البسملة لم تنزل في أول سورة براءة.
ولهذا لم تكتبها الصحابة في المصاحف العثمانية ، وسنبين الحكمة في عدم إنزالها أول هذه السورة في المبحث الآتي إن شاء الله تعالى .
وأما البسملة في سورة النمل في قوله " إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم " فقد اتفق العلماء قاطبة سلفاً وخلفاً على أنها جزء من هذه الآية ، فهي قرآن بالاتفاق ، فمن جحد منها حرفاً كفر ، لا خلاف في هذا بين المسلمين .
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
" لم تركت البسملة في أول براءة "
 
اختلف العلماء في السبب الذي من أجله لم تذكر البسملة في التلاوة ولا في الكتابة في المصحف في أول سورة براءة على أقوال ثلاثة .
الأول : أنه كان شأن العرب في زمانها في الجاهلية إذا كان بينهم وبين قوم عهد وأرادوا نقضه كتبوا إليهم كتاباً ولم يكتبوا فيه البسملة . فلما نزلت سورة براءة بنقض العهد الذي كان بين النبي  صلى الله عليه وسلم  وبين المشركين بعث بها النبي  صلى الله عليه وسلم  علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فقرأها عليهم في الموسم ولم يبسمل على ما حرت به عادتهم في نقض العهد من ترك البسملة .
القول الثاني : ما رواه أحمد وأبو داود الترمذي وغيرهم عن أبي عباس قال قلت لعثمان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني ، وإلى براءة وهي من المئين ففرقتم بينهما ولم تكتبوا سطر بسم الله الرحمن الرحيم ، ووضعتموها في السبع الطوال ؟ فقال عثمان : كان رسول الله  صلى الله عليه وسلم  تنزل عليه السور ذوات العدد ، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولا ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها فقبض رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ولم يبين لنا أنها منها ، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ، ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ، ووضعتهما في السبع الطوال . انتهى ، وقد ذكرنا في مبحث ترتيب السور ما في هذا الحديث من جهة سنده ومن جهة متنه فارجع إليه .
القول الثالث: أنه لما كتبوا المصحف في خلافة عثمان رضي الله عنه اختلف أصحاب رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ، فقال بعضهم : إن الأنفال وبراءة سورة واحدة . لأنهما نزلتا في القتال ، ومجموعهما مائتان وخمس آيات ، فكان مجموعهما هو السورة السابعة من السبع الطوال ، وقال بعضهم : هما سورتان ، فلما حصل هذا الاختلاف بين الصحابة ترك كتاب المصاحف العثمانية بين السورتين فرجة رعاية لمن يقول هما سورتان - ولم يكتبوا البسملة رعاية لمن يقول هما سورة واحدة .
والحق الذي لا محيد عنه ، ولا يصح اعتقاد خلافة أنهما سورتان ، ودليلنا على ذلك أمور :
الأول : ما ثبت في السنة الصحيحة أنه  صلى الله عليه وسلم  كان يتلوا القرآن كله في رمضان عل جبريل مرة كل عام ، وفي العام الذي توفي فيه عارضه القرآن مرتين ، فأين كان يضع هاتين السورتين في قراءته حينما كان يعرض على جبريل ؟ فالحق أن وضعها في موضعها توقيفي ، وأن كلا منهما سورة مستقلة .
الثاني : ما ورد أن أفراداً من الصحابة سموها بأسماء متعددة ، فسماها ابن عباس الفاضحة، وسماها عمر بن الخطاب سورة العذاب ، وسماها ابن عمر المقشقشة ، وسماها المقداد البحوث ، وسماها قتادة المثيرة ، إلى غير ذلك من الأسماء التي تبلغ الخمسة عشر اسماً ، فلو لم تكن هذه السورة " براءة " سورة مستقة بل كانت بعض سورة ما ساغ لهؤلاء الصحابة أن يضعوا لها هذه الأسماء المتعددة، فوضع هذه الأسماء لها من أوضح الأدلة على استقلالها ، وأنها سورة قائمة بنفسها لا بعض من سورة .
الثالث : ما قاله الإمام القشيري : والصحيح أن البسملة لم تكن فيها لأن جبريل عليه السلام لم ينزل بها فيها ، انتهى . وقد روي عن علي بن أبي طالب وغيره من السلف بيان الحكمة في عدم نزول البسملة فيها. وروي عن ابي عباس رضي الله عنهما قال : سألت على بين أبي طالب لم لم تكتب البسملة في أول براءة ؟ فقال : لأن البسملة أمان ، وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان ، انتهى . وقال سفيان بن عيينة : إنما لم تكتب البسملة في صدر سورة براءة ، لأن التسمية رحمة ، والرحمن أمان ، وهذه السورة نزلت في المنافقين ، وبالسيف ، ولا أمان للمنافقين ، انتهى . ومعنى كلام الإمام علي كرم الله وجهه وكلام سفيان بن عيينه أن البسملة مشتملة على وصفين " الرحمن الرحيم " يؤمنان كل خائف ويطمئنان كل يائس ، فهي تحمل فيها طيها روح السلام والأمن ، ومعنى الطمأنينة والسكون ، وأن سورة براءة بدئت بإعلان تبرؤ الله ورسوله من المشركين، وانفصام الصلة بينهما وبينهم ، وبنبذ العهد الذي كان بين المسلمين والمشركين بالحرب الشاملة الساحقة ، وبأمر الله تعالى نبيه والمسلمين بقتل المشركين ، وإعمال السيف في رقابهم، وأخذهم وحصرهم أنى وجدهم ، وحيث ظفر بهم ، وتضمنت هذه السورة أيضاً كشف أستار المنافقين ، وتعداد مثالبهم ، وإبراز ما انطوت عليه نفوسهم من خبث ونفاق ، وإذا كانت البسملة آية رحمة وبشير اطمئنان، وكانت سورة براءة قد بدئت لنبذ العهد ونقض الأمان فأنى يلتقيان ، فلا غرو أن نزلت هذه السورة من غير بسملة .
وقد اختلف العلماء في حكم الإتيان بالبسملة أو براءة - مع القطع بعد ورودها –- فذهب ابن حجر الهيثمي والخطيب وغيرهما إلى الحرمة نظراً لعدم نزولها – وعدم كتابتها في المصاحف العثمانية ، وذهب الإمام الرملي وجماعة إلى الكراهة .
ويظهر لي أن القارئ إذا أتى بها لمجرد التبرك لا لكونها آية فلا حرج عليه ، وينبغي له في هذه الحال أن يسر بها ليفرق بين القرآن وغيره ، أما إذا أتى بها معتقداً قرآنيتها فلا شك في حرمة الإتيان بها حينئذ ، والله تعالى أعلم .
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
أحكام المصحف
أحاط الإسلام القرآن الكريم بهالة عظيمة من الإجلال والتقديس، وأضفى عليه من النور والبهاء والروعة ما لا يحيط به نطاق التعبير، وأولاده من الإكبار والرعاية ما لم يحظ به كتاب سماوي قبله.
فأمر المسلم إذا أراد مس المصحف أو حمله أن يتطهر من الحدثين الأكبر والأصغر ، وحرم عليه مس المصحف أو حمله وهو متلبس بأحد الحدثين – كما حرم عليه قراءة شيء من القرآن قل أو كثر وهو جنب، وندبه أن يتطهر من الحدث الأصغر إذا شاء القراءة .
ولنفصل هذه الأحكام بعض التفصيل فنقول:
يحرم على المحدث حدثاً أكبر أو أصغر أن يمس المصحف بأي جزء من أجزاء بدونه ولو سناً وظفراً ولساناً سواء كان المس بحائل أم بغير حائل ، فلو لف كمه على يده وقلب أوراق المصحف بها حرم، ولا فرق في حرمة المس بين الجزء المشغول بالكتابة وغير المشغول بها ، فيحرم عليه مس هامش المصحف ، وما بين أسطر الكتابة ويحرم عليه مس الورق الخالي من الكتابة الذي يوضع في أول المصحف وآخره، وكذلك يحرم عليه تحريك المصحف من مكان إلى مكان ، أما إذا تصفح أوراقه بعود ونحوه ففيه وجهان – أحدهما يجوز نظراً إلى أنه غير مباشر المصحف ، ولا حامل له ، والثاني لا يجوز نظراً إلى أنه حمل الورقة وهي بعض المصحف ، وكذلك يحرم عليه حمل المصحف من غير ضرورة إلى حمله ، فلو كان هناك ضرورة لحمله، كأن خاف عليه تنجساً أو غرقاً ، أو حرقاً ، أو تلفاً ، ولم يتمكن من التطهر ، ولم يجد مسلماً ثقة يودعه عنده فلا حرمة عليه في حمله والحالة هذه صيانة للمصحف ، وحفظ له من التلف والضياع .
ويجوز حمل المصحف مع متاع إن قصد حمل المتاع وحده، أو أطلق بأن لم يقصد شيئاَ، أو قصد حملة وحمل المتاع، أما إذا قصد حمل واحد منهما لا بعينه فلا يجوز الحمل حينئذ بل يحرم.
ويجوز حمل المصحف إذا كان معه تفسير بشرط أن يكون التفسير أكثر من القرآن يقيناً ، فإذا كان التفسير أقل كبعض كتب غريب القرآن التي توضع على هامش المصحف، أو كان التفسير مساوياً للقرآن في الكلمات ، أو شك في كثرة كلمات التفسير فهو كالحمل في التفصيل المذكور بين أن يكون التفسير أو أكثر أولا .
وأما حمل كتاب حديث ، أو فقه أو توحيد، أو نحو ذلك وفيه آيات من القرآن فجائز ، لأن ما فيه من القرآن غير مقصود بالحمل، ولأن هذا الكتاب لا يقال له مصحف، ومثل المصحف في حرمة مسه وحمله جلده، ولكن ما دام متصلا به، فإن انفصل عنه وجعل جلد كتاب آخر مثلا فلا حرمة في مسه ولا حمله .
وكذلك يحرم عليه مس وحمل الظرف الذي يوضع فيه المصحف، لأنه متخذ للمصحف، منسوب إليه كالجلد، وإنما يحرم مس الظرف وحمله ما دام المصحف فيه، فإن أخرج منه جاز مس الظرف وحمله.
ويحرم مس وحمل الألواح التي يكتب فيها شيء من القرآن للحفظ والدراسة ، وهذا بالنسبة للكبار الذين لا يقصدون من مس اللوح وحمله حفظ ما فيه، وأما الصغار –- ومثلهم الكبار – الذين ينقلون الآيات من المصحف ويكتبونها في الألواح بقصد الدراسة والاستظهار فلا حرمة عليهم في مس اللوح وحمله ، ولا في مس المصحف وحمله بلا تظهر – لما في إنجاب الطهارة عليهم من المشقة والحرج .
وإذا كتب إنسان كتاباً لآخر – وفيه بعض الآيات من القرآن الكريم فلا يحرم حمله – وهرقل كافر وحرمة مس المصحف وحمله للمتحدث حدثاً أصغر مذهب كثير من الأئمة، منهم مالك والشافعي، وأحمد وأبو حنيفة في المشهور عنه، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى ( إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين ) لأن الظاهر في أن الضمير في يمسه يعود على القرآن الكريم ، لأنه المحدث عنه ، ولأنه وصف بالتنزيل ، إذا لا قرينة تخصصه بأحد المعنيين حتى يحمل عليه .
ومن أدلتهم ما روى أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  استعمل عمرو بن حزم على نجران ليفقههم في الدين ، ويعلمهم القرآن، ويأخذ صدقاتهم ، وكتب له كتاباً فيه الفرائض، والسنن ، والصدقات والديات، وفيه " أن لا يمس القرآن إلا طاهر " أخرجه الدارقطني ، والحاكم في المستدرك، والبيهقي وغيرهم .
وهذا الكتاب قد تلقاه الناس بالقبول . قال الإمام ابن عبد البر : إنه أشبه المتواتر لتلقى الناس له بالقبول . وقال يعقوب بن سفيان : لا أعلم كتاباً أصح من هذا الكتاب. فإن أصحاب رسول الله  صلى الله عليه وسلم  والتابعين يرجعون إليه، ويدعون رأيهم ، وقال الحاكم : قد شهد عمر بن عبد العزيز وإمام عصره الزهري لهذا الكتاب بالصحة، وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد من حديث عبدالله بن عمر قال ، قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  : " لا يمس القرآن إلا اهر " قال الهيثمي : رجاله موثقون ، وقوله في الحديث " طاهر " عام فيحمل على الطاهر من الحدثين كما سبق نظيره .
وإلى هذا ذهب جمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم ، منهم على بن أبي طالب وعبدالله بن مسعود، وسعد بن أبي وقاص ، وعبدالله بن عمر، وعطاء وغيرهم ونقل الشوكاني في نيل الأوطار عن أبن عباس، والشعبي، والضحاك وآخرين أنهم يجيزون من المصحف للمحدث حدثاً أصغر انتهى .
وأما المحدث حدثاً أكبر والحائض والنفساء فإجماع العلماء على عدم جواز مسهم وحملهم المصحف . لأنه إذ لم يبح ذلك للمحدث حدثاً أصغر فلأن لا يباح لهؤلاء أولى .
كذلك يحرم كل ما من شأنه أن يتنافى وقدسية المصحف الشريف، ويحط من قدرة المنيف، نحو إلقائه بيده كالمستهين به، فإن هذا محرم شرعاً وقد يجر إلى الكفر والعياذ بالله تعالى ، ونحو توسده أي جعله وسادة للإتكاء عليه ونحو وضعه مقابلا لرجليه ، أو وضع شيء عليه من كتب أو غيرها ولو كنت حديث لما في ذلك كله من انتهاك حرمته، وهذا المنع واجب على الولي وغيره من كل مسلم يرى مجنوناً أو صبياً غير مميز يتعرض لمس المصحف أو حمله . فإن لم بفعل أثم .
قال الإمام النووي في التبيان : ويستحب أن يقوم للمصحف إذا قدم به عليه لأن القيام مستحب للفضلاء من العلماء والأخيار فالمصحف أولى، وعن عكرمة رضي الله عنه أنه كان يضع المصحف على وجهه ويقول : كتاب ربي كتاب ربي رواه الدارمي في مسنده .
وأما قراءة القرآن فقد أجمع المسلمون على جوازها بالنسبة للمحدث حدثاً أصغر، ولكن الأفضل للمسلم أن يتطهر من الحدث الأصغر إذا أراد القراءة فلا يقرأ إلا وهو متوضئ .
قال الإمام النووي في المجموع : قال إمام الحرمين والغزالي : ولا نقول إن قراءة المحدث مكروهة فقد صح أن النبي  صلى الله عليه وسلم  كان يقرأ مع الحدث الأصغر . انتهى .
وأما المحدث حدثاً أكبر وهو الجنب فيحرم عليه شرعاً قراءة شيء من القرآن كثر أو قل ولو كان بعض آية ، وبه عبدالله ، والحسن البصري، والزهري ، والنخعي وغيرهم ، وهذا مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق، واستدلوا على ذلك بما رواه عبدالله ابن سلمة بكسر اللام عن علي رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله  صلى الله عليه وسلم  يقضي حاجته فيقرأ القرآن، ولم يكن يحجبه عن القرآن شيء ليس الجنابة . رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي وغيرهم وقال الترمذي حديث حسن صحيح ، ولفظ الترمذي كان يقرئنا القرآن على كل حال ما لم يكن جنباً .
وعن علي رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله  صلى الله عليه وسلم  توضأ ثم قرأ شيئاً من القرآن ثم قال : " هكذا لمن ليس بجنب ، فإن الجنب فلا ولا آية " أخرجه أبو يعلي . وقال الهيثمي : رجاله موثقون .
وعن أبن عمر قال : قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  : " لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئاً من القرآن " . رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه .
وعن جابر قال : قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  : " لا تقرأ الحائض ولا النفساء من القرآن شيئاً رواه الدارقطني ، وقوله في هذين الحديثين " لا يقرأ " " ولا تقرأ " روى بكسر الهمزة على أن لا ناهية والفعل مجزوم وحرك بالكسر للتخلص من التقاء الساكنين ، والكلام من قبيل الإنشاء ، وروي بضم الهمزة على f لا نافية ، والفعل مرفوع، والكلام من قبيل الخبر، ولكن يراد به النهي فيكون من قبيل الإنشاء أيضاً وإن كانت صورته الخبر .
وروي عن على موقوفاً " اقرأوا القرآن ما لم تصب أحدكم جنابة ، فإن أصابته فلا ولا حرفاً " رواه الدارقطني .
ورب قائل يقول : روت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي  صلى الله عليه وسلم  كان يذكر الله تعالى على كل أحيانه ، أخرجه مسلم . وهذا الحديث يدل – بمقتضى عمومه – على جواز القراءة مع الجنابة ، ووجه الدلالة أن قولها تعالى ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) الآية ، وقولها : على كل أحيانه – أي في جميع أوقاته – عام يشمل جميع الأوقات ومنها وقت تلبسه بالجنابة، وإذا كان رسول الله  صلى الله عليه وسلم  يذكر الله تعالى بجميع أنواع الذكر – ومنها القرآن في جميع أوقاته – ومنها وقت تلبسه بالجنابة فحينئذ كان يقرأ القرآن مع الجنابة، وقد أجاب الإمام النووي في المجموع عن هذا الحديث فقال : إن المراد بالذكر غير القرآن فإنه المفهوم عند الإطلاق . انتهى ، ويمكن الجواب أيضاً بإبقاء قولها : كان يذكر الله تعالى – على عمومه ، وتخصيص قولها : على كل أحيانه بغير وقت تلبسه بالجنابة، فيكون المعنى : أنه عليه الصلاة والسلام كان يذكر الله تعالى بجميع أنواع الذكر من قرآن وغيره في جميع الأوقات غير الوقت الذي يكون فيه جنباً فلا يذكر الله فيه بقراءة القرآن والدليل على التخصيص هو الأحاديث السابقة .
واعلم أن قراءة القرآن إنما تحرم على الجنب إذا قصد القراءة وحدها ، أو قصدها مع الذكر، أو قصد واحداً منهما لا بعينه ، أما إذا قصد الذكر وحده كقوله في ابتداء الأكل " بسم الله الرحمن الرحيم " وفي انتهائه " الحمد لله " وقوله عند المصيبة " إنا لله وإنا إليه راجعون " وقوله عند ركوب الدابة أو نحوها " سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين " فلا حرمة حينئذ .
ومثل قصد الذكر وحده قصد الدعاء وحده كقوله ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) وقوله ( ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا من الأبرار ) وقوله : ( ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ) فلا تحرم قراءة شيء من هذه الآيات وأمثالها بقصد الدعاء فقط من غير قصد القراءة ، وأيضاً لا تحرم القراءة مع قصد الذكر والدعاء لا القراءة ، وكذلك لا تحرم القراءة إذا لم يقصد القراءة ولا الذكر ولا الدعاء بأن جرى لسانه بالآية من غير قصد .
ومحل هذا التفصيل إذا قرأ آية أو بعض آية يوجد نظمها في غير القرآن كما تقدم في الأمثلة وأما إذا قرأ آية لا يوجد نظمها إلا في القرآن كقوله ( والوالدات يرضعن أولادهم حولين كاملين ) الآية فلا تحل قراءتها مطلقاً .
والحائض والنفساء في مس المصحف وحمله وفي قراءة القرآن – كالجنب في جميع ما تقدم من الأحكام ، فما يحرم على الجنب يحرم عليهما ، وما يحل له يحل لها .
قال العلماء : يجوز لكل من الجنب ، والحائض ، والنفساء النظر في المصحف من غير مسه ولا حمله ـ ولا تلفظ بكلماته ، وكذا يجوز لهؤلاء امرار القرآن على قلوبهم دون تحرك ألسنتهم .
( فائدة ) قال العلماء : إذا بليت بعض أوراق المصحف، وصارا غير صالحة للانتفاع بها ، والقراءة فيها فلا يجوز وضعها في شق ونحوه لأن ذلك يعرضها للامتهان ، ولا يجوز تمزيقها لما فيها من تقطيع الحروف وتفريق الكلمات ، وفي ذلك ازدراء لها، وتحقير من شأنها ، بل الواجب في هذه الحال تحريقها بالنار حتى لا يكون لها أثر ما فقد أحرق عثمان بن عفان المصاحف التي كان فيها آيات وقراءات منسوخة ، وطبعاً كان فيها آيات محكمة ، وقراءات ثابتة ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة .
 
 
الحلف بالمصحف
من يحلف بالمصحف، بأن يقول : والمصحف لأفعلن كذا – فإما يقصد به كلام الله وهو المعنى النفسي القديم ، أو يقصد به الألفاظ ، أو الورق والجلد . فإن قصد به كلام الله عز وجل وهو المعنى النفسي القديم انعقدت يمينه ، ووجبت عليه شرعاً تنفيذ المحلوف عليه، فإن لم يفعل حنث ، وأن قصد به الألفاظ أو الورق أو الجلد أو الألفاظ والورق والجلد جميعاً فلا تنعقد يمينه إذا الحلف بهذه الأشياء لا يعتبر يميناً شرعياً .
وإذا حلف بكلام الله – بأن قال : وكلام الله لأفعلن كذا – فإن أراد الصفة القديمة القائمة بذاته تعالى انعقدت يمينه ، وإن أراد الحروف والأصوات والألفاظ التي نقرؤها الدالة على الصفة القديمة فلا تنعقد يمينه، لأن الحلف بهذه الأشياء ليس بيمين .
وإذا حلف بكتاب الله تعالى ، فإذا قصد الصفة الأزلية انعقد بيمينه ، وإذا قصد المكتوب من النقوش ، أو قصد الألفاظ، أو قصدهما معاً لم تنعقد يمينه لما تقدم، وإذا حلف بالقرآن – فإن قصد الكلام النفسي القديم انعقدت يمينه وإن قصد به الألفاظ المقروءة فلا تنعقد يمينه ، وأيضاً لا تنعقد يمينه إذا نوى بالقرآن خطبة الجمعة ، أو الصلاة ، وذلك أن لفظ القرآن كما يطلق على الكلام النفسي القديم وعلى الألفاظ المقروءة يطلق على الخطبة فقد ورد أن قوله تعالى : ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ) نزل في الترغيب في الاستماع والإنصات لخطبة الجمعة ، فالمراد بالقرآن في الآية خطبة الجمعة وعبر عنها بالقرآن لاشتمالها عليه .
ففي الآية مجاز مرسل من إطلاق الجزء وهو القرآن ، وإرادة الكل وهو الخطبة ، ويطلق لفظ القرآن أيضاً على الصلاة ، كما في قوله تعالى ( وأقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً ) فإن المراد بقرآن الفجر في الآية صلاة الصبح، وعبر عنها بالقرآن لاشتمالها عليه فيكون فيها مجاز مرسل أيضاً ، والخلاصة : أن الحالف بالمصحف ، أو بكلام الله ، أو بكتاب الله ، أو بالقرآن إن قصد بواحد منها الكلام النفسي القديم الذي هو صفة من صفات الله تعالى الذاتية الأزلية انعقدت يمينه، وإن قصد به غير ذلك كأن قصد ألفاظ القرآن ، وحروفه وكلماته ، أو قصد المكتوب من النقوش أو قصد ورق المصحف وجلده ، أو قصد خطبة الجمعة، أو صلاة الصبح ، إن قصد شيئاً من ذلك فلا تنعقد يمينه ، وذلك أن الحلف لا يجوز شرعاً إلا بالله تعالى أو باسم من أسمائه ، أو بصفة من صفاته ما رواه عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي  صلى الله عليه وسلم  سمع عمر بن الخطاب في ركب وهو يحلف بأبيه فقال رسول الله e : " إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت " ، متفق عليه .
وعن أبي هريرة t ، قال ، قال رسول الله e : " لا تحلفوا إلا بالله ، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون " أخرجه النسائي .
فهذان الحديثان يدلان على أن الحلف لا يكون إلا بالله تعالى ، وليس المراد أن لا يكون إلا بلفظ الجلالة بخصوصه بل المراد أن لا يكون إلا باسم من أسماء الله تعالى سواء كان لفظ الجلالة ، أم غيره نحو الرحمن ، خالق الخلق ، رب العالمين ، بارئ النسم إلى غير ذلك .
ومن شواهد صحة الحلف بصفة من صفات الله تعالى ما رواه ابن عمر قال :كان أكثر ما كان النبي e يحلف " لا ومقلب القلوب " رواه البخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم . وقوله e " لا " رد ونفي الكلام السابق ، وقوله : " ومقلب القلوب " هو المقسم به ، وتقليب القلوب تحويلها من حال إلى حال من كفر إلى إيمان ، من جزع إلى صبر ، من سخط إلى رضا ، واستسلام إلى غير ذلك ، والشاهد في الحديث قوله ومقلب القلوب فإن تقليبها صفة من صفاته تعالى ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه : عن النبي e قال : " يبقي رجل بين الجنة والنار ، فيقول : يا رب اصرف وجهي عن النار ، وعزتك لا أسالك غير هذا " رواه الشيخان وغيرهما ، قال ابن بطال : العزة يتحمل أن تكون صفة ذات بمعنى القدرة والعظمة ، وأن تكون صفة فعل بمعنى القهر لمخلوقاته والغلبة لهم ولذلك صحت الإضافة . ثم قال : ويظهر الفرق بين الحالف بعزة الله التي هي صفة لذاته والحالف بعزة الله التي لفعله ، بأن يحنث في الأول دون الثاني . قال الحافظ ابن حجر : وإذا أطلق الحالف انصرف إلى صفة الذات وانعقدت اليمين . انتهى .
والشاهد في الحديث قوله وعزتك ، فإن النبي e ذكر ذلك مقرراً له فكان ذلك التقرير دليلا على جواز الحالف بعزة الله وهي صفة من صفاته تعالى إذا تبين هذا تعلم أن الحالف بالمصحف ، أو بكلام الله تعالى ، أو بكتابه ، أو بالقرآن – إن قصد بواحد من الأربعة الكلام النفسي القديم انعقدت يمينه ، لأنه إذا ذاك يكون حالفاً بصفة من صفات الله عز وجل ، وهي صفة الكلام .
أما إذا قصد بواحد منها ألفاظ القرآن ، وكلماته وحروفه ، أو النقوش المكتوبة أو ورق المصحف وجلده ، أو خطبة الجمعة ، أو صلاة الصبح فلا تنعقد يمينه ، لأن شيئاً من ذلك ليس أسماً من أسمائه تعالى ، ولا صفة من صفاته ، والله أعلم .
 
  
( تواتر القرآن العظيم )
تلقى الصحابة القرآن عن رسول الله e حفظاً وكتابة ، وجمعه أبو بكر من المكتوب بين يدي رسول الله e ، ومن صدور الرجال ، وكان ذلك بإشراف الحافظ من أعلام الصحابة ، فكان إجماعاً منهم على صحة المكتوب في صفحة ، ثم نسخه عثمان في المصاحف بإشراف الحافظ الثقات من المهاجرين والأنصار الذين تلقوه عن رسول الله e ، وشهدوا جمعه في عهد ابي بكر ، وأرسل عثمان بنسخة إلى الأمصار ، ومنها نقل الناس مصاحفهم جيلا بعد جيل ، وتوارثوا حفظاً وكتابة إلى عصرنا هذا ، ، فكان القرآن متواتراً من طريق الحفظ والكتابة من لدن رسول الله e ينقله الملايين عن الملايين نقلا مأموناً من الزيادة والنقصان، مصوناً من التغيير والتبديل ، وسيظل متواتراً إلى أن يرفع من الأرض كما ورد ذلك في صحاح الأحاديث .
وبذلك كان القرآن هو الكتاب السماوي الوحيد الذي بقى محفوظاً كما نزل من عند الله تعالى ليكون علماً للهداية في الأولين والآخرين ، وحجة على البشر أجمعين ، وقد تحقق بحفظة وعد الله تعالى في قوله ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) وأسأل الله الكريم الغفور أن يخلع على هذا الكتاب ثوب القبول ، وأن ينفع به أهل القرآن العظيم في جميع الأمصار والأعصار ، وأن يجعله ذخراً لي بعد موتي ، وسبباً في نجاحي من أهوال يوم الدين ، فهو حسبي ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
وكان الفراغ من تأليفه يوم الخميس المبارك 19 من شهر المحرم الحرام سنة ألف وثلاثمائة وخمسين هجرية 1385 هـ الموافق 20 من شهر مايو ألف وتسعمائة وخمسة وستين ميلادية 1965 م وصلي الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، والحمد لله رب العالمين .
 
 (2)            
 
[1] أي مفرقاً إلى أجزاء كل جزء منها يسمى نجماً.
[2] والمقصود من كتابة القرآن في هذا العصر وكذا من معارضة الرسول جبريل به مرة كل عام ، ومرتين في العام الأخير المبالغة في الاحتياط لألفاظ القرآن الشريف ، وزيادة الحيطة والاستياق من حفظها وضبطها لتكون في مأزق من الضياع.               
[3] جمع عسيب وهو جريد النخل كانوا يكشطون الخوص ويكتبون على الطرف العريض منه.
[4] جمع لخفة بفتح اللام وسكون الخاء وهي الحجارة الرقاق.
[5] جمع رقعة وتكون من جلد أو ورق أو غير ذلك.
[6] وهو الجلد
[7] جمع كتف وهو عظم عريض في كتف الحيوان كانوا يكتبون فيه لقلة القراطيس عندهم.
[8] جمع ضلع وهو عظم الجنبين.
[9] بين في هذه العرضة ما نسخ وما بقي من القرآن.
[10] أي عقب قتل أهل اليمامة . والمراد بأهل اليمامة هنا من قتل بها من الصحابة في المواقعة مع مسيلمة الكذاب.
[11] اسم مكان في بلاد العرب كانت به الوقعة المشهورة بين جيوش المسلمين بقيادة خالد بن الوليد ، وجيوش مسيلمة الكذاب ، وقد تم فتحها على يد خالد.
[12] أي كثير واشتد ، وروى أنه قتل من القراء نحو سبعين ، وقيل خمسمائة منهم سالم مولى أبي حذيفة.
[13] وهو غير خزيمة بن ثابت الذي جعل رسول الله  صلى الله عليه وسلم  شهادته بشهادة اثنين.
[14] يؤخذ من هذا أن عمر رضي الله عنه كان يؤازر زيد بن ثابت في هذه المهمة وقد دلت الروايات الكثيرة على ذلك.
[15] فالغرض من إتلافها سد ذريعة الشك والارتياب فلا يستطيع أحد بعد ذلك أن يدعي أن في هذه المصاحف ما يخالفها.
[16] الفرق بين الصحف والمصحف أن الصحف جمع صحيفة ، وهي القطعة من الورق أو غيره يكتب فيه ، والمصحف هو جامع الحف ، فهو يلاحظ فيه دفتاه ،وهما جلداه اللذان يتخذان لجمع أوراقه ن وسط صحفه ، هذا معناه في أصل اللغة ، أما في الاصطلاح فالمراد بالصحف الأوراق المجردة التي جمع فيها القرآن في عهد الصديق ، وكانت مرتبة الآيات ، مفرقة السور ، لم يرتب بعضها إثر بعض ، والمراد بالمصحف الأوراق التي جمع فيها القرآن مع ترتيب آياته جمع فيها القرآن مع ترتيب آياته وسوره جميعاً في عهد عثمان ، انتهى من الفتح لابن حجر.
[17] قيل إن علامات الشدة وما بعدها إنما وضعت في العصر العباسي بعد زمن الخليل.
[18] استظهر الجعبري أن أبا الأسود هو الذي ابتدع النقط بمعنييه ، فبدأ بنقط الأعراب ، وثنى بنقط الأعجام ، ثم أخذ عنه العلماء بعده فكان له فضل السبق والتقدم.
21 ذكر الرسول هذه الأنواع الأربعة التي اشتمل عليها القرآن عل هذه النحو من الترتيب الذي يتفق وترتيب السور في المصاحف يدل على أنه توقيفي .
 
22 الطول ضم الطاء المشددة مع فتح الواو وجمعه طولى كالكبر جمع كبرى ، وحكى في الطول كشر الطاء ولكنه قليل .
 
23 البرهان للزركشي خاص 244 .
 
وزارة الاوقاف و الشؤون الاسلامية - إدارة الدراسات الإسلامية